الزهد ..مفاهيم أساسية (2)
17 ذو الحجه 1432
د. خالد رُوشه

4ـ حال النبي صلى الله عليه وسلم وصحبه:
لقد كانت حياة النبي صلى الله عليه وسلم وحياة أصحابه تطبيقًا عمليًا لترك الدنيا والتقلل منها والزهد فيها وقصر الأمل فيها, ولم يكونوا يحرصون على متاع منها ولا مال ولا تشييد بناء, وإنما كان حرصهم منها على التزود بالتقى والعمل الصالح.
فأما عن حاله صلى الله عليه وسلم, فقد روى عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: نام رسول الله صلى الله عليه وسلم على حصير, فقام وقد أثر في جنبه, قلنا: يا رسول الله لو اتخذنا لك وطاءً, فقال: (مالي وللدنيا؟ ما أنا في الدنيا إلا كراكب استظل تحت شجرة ثم راح وتركها) أخرجه الترمذي.

 

فقد كان بيته صلى الله عليه وسلم أقل البيوت متاعًا وأثاثًا وكان يفترش الحصير تارة ويفترش الأدم (الجلد) تارة, وكان عنده ركوة للوضوء وكساء ورداء أو كساءان ورداءان أحدهما للعيش والآخر للقاء الوفود.
وكان صلى الله عليه وسلم معرضًا عن الدنيا, فلربما أهداه بعض الناس عباءة أو جبة أو ثوبًا فأهداه أسامة بن زيد أو غيره, وكان في بيته لا توقد النار على اللحم أو الطبخ إلا في أيام متباعدات, ومن حاله تعلم أصحابه, فكانوا خير قدوة لخير قوم يقتدون.
ولا شك أن حياة الزهد والتقلل من الدنيا هذه هي خير حياة, ذلك لأن الله رضيها لهم ولو كان خير الحياة في الغنى والتنعم لما رضي الله سبحانه بها لنبيه صلى الله عليه وسلم, لأن النبي صلى الله عليه وسلم أحب الخلق إلى الله وأكرمهم عنده.

 

* عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما قال: ذكر عمر بن الخطاب رضي الله عنه ما أصاب الناس من الدنيا فقال: "لقد رأيت رسول صلى الله عليه وسلم يظل اليوم يلتوي ما يجد من الدَّقل ما يملأ به بطنه " أخرجه مسلم

* وعن عائشة رضي الله عنها قالت: "ما شبع آل محمد من خبز الشعير يومين متتابعين حتى قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم " أخرجه البخاري

* وعن أبي بردة رضي الله عنه قال: أخرجت لنا عائشة رضي الله عنها كساءً ملبدًا وإزارًا غليظًا فقالت: "قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذين " أخرجه مسلم

* وعن عثمان بن عفان رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ليس لابن آدم حق في سوى هذه الخصال: بيت يسكنه وثوب يواري عورته وجلفُ الخبز والماء) أخرجه الترمذي

* وعن عروة بن الزبير عن عائشة رضي الله عنها أنها كانت تقول: والله يا ابن أختي إن كنا ننظر الهلال ثم الهلال ثم الهلال, ثلاثة أهلة في شهرين, وما أوقد في أبيات رسول الله صلى الله عليه وسلم نـار, قـلت: يا خالة فما كان يعيشكم؟ قالت: الأسودان, التمر والماء، إلا أنه قد كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم جيران من الأنصار وكانت لهم منايح وكانوا يرسلون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من ألبانها فيسقينا" متفق عليه

* وعن أنس رضي الله عنه قال: "لم يأكل النبي صلى الله عليه وسلم على خوان حتى مات وما أكل خبزًا مرققًا حتى مات " أخرجه البخاري
وكذا كان أصحابه رضوان الله عليهم.

 

* عن فضالة بن عبيد رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا صلى بالناس يخر رجال من قامتهم في الصلاة من الخصاصة - وهم أصحاب الصفة - حتى يقول الأعراب: هؤلاء مجانين, فإذا صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم انصرف إليهم فقال: (لو تعلمون ما لكم عند الله تعالى لأحببتم أن تزدادوا فاقة وحاجة " أخرجه أحمد

وعن أبي هريرة ضي الله عنه قال: "لقد رأيت سبعين من أهل الصفة ما منهم رجل عليه رداءٌ, إما إزار وإما كساء قد ربطوا في أعناقهم منها ما يبلغ نصف الساق, ومنها ما يبلغ الكعبين فيجمعه بيده كراهية أن ترى عورته " أخرجه البخاري
* وعن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: "إني لأول العرب رمى بسهم في سبيل الله, ولقد كنا نغزو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لنا طعام إلا ورق الحبلة, وهذا السمر حتى إن كان أحدنا ليضع كما تضع الشاة ما له خلط " متفق عليه
وقال أنس رضي الله عنه: "رأيت عمر وهو يومئد أمير المؤمنين وقد رقع بين كتفيه برقاع ثلاث لبد بعضها على بعض".

 

وكان أغنياء الصحابة رضي الله عنهم أيضًا عزوفين عن الدنيا, فيكثرون من الصدقة غير ناظرين إلى ما يبقى لهم, وكانوا إذا قرب إليهم متاع أو طعام ذكروا فناء الدنيا ولقاء الله, فعافوا الطعام والشارب وأقبلوا على البكاء, وهذا معروف مشهور من أحوالهم تمتلئ به كتب سيرهم وتراجمهم, رضوان الله عليهم أجمعين:

 

قال الحسن: خطب عمر الناس وهو خليفة وعليه إزار فيه ثنتا عشرة رقعة.
وقال ابن الجوزي: روى أحمد عن مصعب بن سعد قال: قالت حفصة لعمر: يا أمير المؤمنين, هلا اكتسيت ثوبًا هو ألين من ثوبك, وأكلت طعامًا هو أطيب من طعامك؛ فقد وسع الله من الرزق وأكثر من الخير! فقال: إني سأخاصمك إلى نفسك, أما تذكرين ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يلقى من شدة العيش, وكذلك أبو بكر, فما زال يُذكرها حتى أبكاها, فقال لها: أما والله لأشاركنهما في مثل عيشهما الشديد لعلي أدرك عيشهما الرضي.

 

وقال علي بن ربيعة: إن عليًا بن أبي طالب رضي الله عنه جاءه ابن التياح فقال: يا أمير المؤمنين امتلأ بيت المال من صفراء وبيضاء - يريد الذهب والفضة- فقال: الله أكبر, فقام متوكئًا على ابن التياح حتى قام على بيت المال فقال: يا ابن التياح عليّ بأشياخ الكوفة, قال: فنودي في الناس, فأعطى جميع ما في بيت المال وهو يقول: يا صفراء, يا بيضاء غُري غيري, ها, وها, حتى ما بقي فيه دينار ولا درهم ثم أمر بنضحه وصلى فيه ركعتين.
وعن عمرو بن قيس أن عليًا رئي عليه إزار مرقع, فعاتبوه أن يلبسه فقال: يقتدي بي المؤمن ويخشع له القلب.

 

وروى أحمد أن عمر لما قدم الشام تلقاه الناس وعظماء الأرض فقال عمر: أين أخي؟ قالوا: من؟ قال: أبو عبيدة. قالوا: الآن يأتيك. فلما أتاه نزل فاعتنقه ثم دخل عليه بيته فلم ير في بيته إلا سيفه وترسه ورحله, فقال عمر: ألا اتخذت ما اتخذ أصحابك, فقال: يا أمير المؤمنين هذا يبلغني المقيل.
وروى البخاري أن عبد الرحمن بن عوف أتي بطعام وكان صائمًا فبكى وقال: قتل مصعب بن عمير وهو خير مني, كفن في بردة إن غطي رأسه بدت رجلاه, وإن غطي رجلاه بدا رأسه, وقتل حمزة وهو خير مني فلم يوجد له ما يكفن فيه إلا بردة, ثم بسط لنا من الدنيا ما بسط وإنا خشينا أن تكون حسناتنا عجلت لنا, ثم جعل يبكي حتى ترك طعامه.

 

وأتي عبد الرحمن بن عوف بصحفة فيها خبز ولحم, فلما وضعت بكى عبد الرحمن بن عوف, فقالوا: يا أبا محمد ما يبكيك؟ فقال: مات رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يشبع هو وأهل بيته من خبز الشعير.
وعن سعيد بن حسين قال: كان عبد الرحمن بن عوف لا يُعرف من بين عبيده.
وعن جعفر بن برقان قال: أعتق عبد الرحمن بن عوف ثلاثين ألف بيت
وعن جويرية قالت: باع الزبير دارًا له بستمائة ألف فقيل له: يا أبا عبد الله غُبنت, قال: كلا والله لتعلمن أني لم أُغبن, هي في سبيل الله.
وقال ابن الجوزي عن نهيك: كان الزبير يأتيه ربح تجارته وأملاكه كل ليلة, فكان يقسمه كل ليلة ثم يقوم إلى منـزله وليس معه منه شيء.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان جعفر بن أبي طالب يحب المساكين ويجلس إليهم ويحدثهم ويحدثونه, وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسميه "أبا المساكين " أخرجه ابن ماجه.

 

5ـ لا تلتفت إلى المتاع:
إن ترك الدنيا والزهد فيها إنما يتأتى بعدم التعلق بها وعدم انتظار متاعها, ولو جاء متاعها لم يبال به ولم يلتفت إليه, بل هو حاله لا يتغير إذا جاءه فقر أو غنى, فالمال في يده لا يمس قلبه, ويستوي عنده وجود المال وعدمه, ويستوي عنده مديح الناس وذمهم له, ويستوي عنده حصول الجاه أو عدمه.
قال يونس بن ميسرة: ليست الزهادة في الدنيا بتحريم الحلال ولا إضاعة المال, إنما الزهادة في الدنيا أن تكون بما في يد الله أوثق منك بما في يدك, وأن يكون حالك في المصيبة, وحالك إذا لم تُصَب بها سواء, وأن يكون مادحك وذامك في الحق سواء.
وقيل لابن المبارك: أنت زاهد, فقال: الزاهد هو عمر بن عبد العزيز إذ جاءته الدنيا راغمة فتركها.
وقال الحسن البصري: أدركت أقوامًا ما كانوا يفرحون بشيء من الدنيا أقبل ولا يأسفون على شيء منها أدبر, ولهي في أعينهم أهون من التراب.
وهذا كتاب كتبه الحسن إلى عمر بن عبد العزيز يوصيه وينصحه, قال:
"أما بعد, فإن الدنيا دار ظعن - سفر - ليست بدار مقام, وإنما أنزل إليها آدم عقوبة فاحذرها يا أمير المؤمنين, فإن الزاد منها تركها, والغنى فيها فقرها, تُذل من أعزها, وتفقر من جمعها, كالسم يأكله من لا يعرفه وهو حتفه, فاحذر هذه الدار الغرارة الختالة الخداعة, وكن أسَرَّ ما تكون فيها أحذر ما تكون لها, سرورها مشوب بالحزن وصفوها مشوب بالكدر, فلو كان الخالق لم يخبر عنها خبرًا ولم يضرب لها مثلاً لكانت قد أيقظت النائم ونبهت الغافل, فكيف وقد جاء من الله عز وجل عنها زاجر وفيها واعظ.
فما لها عند الله سبحانه قدر ولا وزن, ما نظر إليها - سبحانه - منذ خلقها, ولقد عُرضت على نبينا صلى الله عليه وسلم مفاتحها وخزائنها فأبى أن يقبلها, وكره أن يحب ما أبغض خالقه.
زواها الله عن الصالحين اختيارًا, وبسطها لأعدائه اغترارًا, أفيظن المغرور بها أنه أكرم ونسي ما صنع الله بمحمد صلى الله عليه وسلم حين شد على بطنه الحجر..".