نُودِّعُ عاماً... ونستقبلُ آخرَ
8 محرم 1433
سعد العثمان

وقفتُ أمام يوميَّتي لأنزعَ آخرَ ورقة فيها، آخر يومٍ من عُمُر العام المنصرم 1432هـ، وعلى غير عادتي، تثاقلت يدي هذه المرَّة، وهي تمتدُّ إليها، وانتابني إحساس نبَّه في وجداني شعوراً ما كنت أُعيره اهتماماً، على مدى أكثر من: 350 يوماً قد انتهت، لقد أحسسْتُ بإشفاق عليها، وقد تراءت لي كأنَّها تحتضر، وترنو إلى يدي في فزع وذُلٍّ، كأنَّها تطلب منِّي أن أمهلها لحظات، تودِّع فيها هذه الحياة، فعدلت عن نزعها، ورُحْتُ أتأمَّل هذه الورقة الأخيرة، واعترتني رهبة، عندما عرفت أنَّني في الحقيقية بنزعها، قد نزعت حزمة من أيام عمري، لأطوي بها سجلِّي؛ الذي لا يغادر صغيرة ولا كبيرة، من خير، أو شر .

 

إنَّ هذه اليوميَّة المحتضرة، تشبه عُمُر أي مخلوق، وإنَّها تتناقص أيامها؛ مثلما تتناقص أعمارنا يوماً بعد يوم، وكما يتناقص بتراكمات الحقب والسِّنين عمرُ الزمان، وكلُّ المخلوقات في تناقص مطرد، حتى تنتهي إلى الزوال، قال الله تعالى: (كل من عليها فان * ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام) الرحمن: 26-27.

 

إنَّ كلَّ المخلوقات تنتهي أعمارها، وتمضي حيث شاء الله لها؛ إلا الإنسان فإنَّه الوحيد الذي يبقى متبوعاً، بعد رحيله من هذه الدُّنيا، وموقوفاً للحساب والجزاء.
عُدت من ذهولي، وأخذت أستحثُّ ذاكرتي القاصرة، علَّها تسترجع بعض ما رسب وعلق بها، من أحداث العام المنصرم، قبل أن تغمرها دوائر النِّسيان، ووقفت طويلاً أستعرض ذلك الشَّريط الطَّويل"العمر" ، يا سبحان الله!! إنَّه شريط عجيب حقَّاً، فقد اكتظَّ اكتظاظاً، بالحوادث المختلفة، والأحداث المتباينة، والأعمال الحقيرة والجليلة، لي ولغيري، ممن لا حصر لهم، من الذين مرُّوا أمام عدسة هذا الشَّريط بالصَّوت والصُّورة.

 

انسلخ عامٌ كاملٌ من أعمارنا، انسلخ بثوانيه، ودقائقه، وساعاته، وأيامه، فماذا قدَّمنا فيه من أعمال صالحة ندَّخرها ليوم تذهل فيه كلُّ مرضعة عمَّا أرضعت، وتضع كلُّ ذات حمل حملها، وترى النَّاس سكارى، وما هم بسكارى، ولكنَّ عذاب الله شديد؟!.

 

إنَّ جواب السُّؤال مخجلٌ، ومخجل جداً، ولكن! لابدَّ من الاعتراف بالأمر الواقع، فالواحد منَّا يخرج من بيته في الصَّباح الباكر، ويمضي سحابة يومه، في مدرسته، أو جامعته، أو عمله، ويعود إلى بيته آخر النَّهار، وقد أضناه التَّعب، فيتناول طعام الغداء، ويرتاح قليلاً، ثمَّ يمضي بقيَّة اليوم، وأول الليل في المذاكرة، أو قضاء الأمور المعيشيَّة، ثمَّ ينام، ثمَّ يعود في الصَّباح وهكذا دواليك، إنَّها والله حياة ليست فيها دقائق مخصَّصة لقراءة القرآن، أو لتعلم أحكام ديننا، أو ليست فيها دقائق مخصَّصة لقيام الليل، وصلاة السُّنن والنَّوافل، وليست فيها دقائق مخصَّصة لحضور مجالس الذِّكر، والمحاضرات، وليست فيها أيام لصيام الاثنين والخميس، وليست فيها دقائق لبذل المعروف، وقضاء حوائج النَّاس.

 

لقد شغلتنا دنيانا عن طاعة ربِّنا، ونحن الذين حذَّرنا الله جلَّ و علا منها، فقال:(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ * وَأَنفِقُوا مِن مَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ *  وَلَن يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاء أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ * )المنافقون: 9-11.

 

وقال صلَّى الله عليه وسلَّم: (لا تزول قدما عبد يوم القيامة؛ حتَّى يُسأل عن أربع: عن عُمُره فيم أفناه، وعن شبابه فيم أبلاه، وعن ماله: من أين اكتسبه؟ وفيم أنفقه؟ ، وعن علمه ماذا عمل به؟.) السِّلسلة الصَّحيحة:(946). كان ابن عمر رضي الله عنهما يقول:(إذا أمسيت فلا تنتظر الصَّباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخُذْ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك)رواه البخاري.

 

سوف يسألنا مالك يوم الدين، يوم الحشر عن أعمارنا، هل أفنيناها في الأعمال الصَّالحة والطَّاعات، أم أفنيناها في اللَّهو والغفلة والعبث؟؟.ويسألنا سبحانه وتعالى عن أجسامنا، هل أبليناها بالصِّيام، والقيام، وغضِّ البصر، وحفظ السَّمع واللِّسان، أم أبليناها في تناول ما لذَّ و طاب، من الطَّعام والشَّراب؟؟ .والسَّائل جلَّ وعلا يعرف خفايا أمورنا، ولا يعجزه شي ء في الأرض و لا في السَّماء. قال تعالى:(ألم تر أنَّ الله يعلم ما في السَّماوات وما في الأرض ما يكون من نجوى ثلاثةٍ إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أين ما كانوا ثمَّ ينبِّئهم بما عملوا يوم القيامة إنَّ الله بكلِّ شيء عليم)المجادلة: 7.

 

إنَّ الكثيرَ من أبناء المسلمين، في معظم البلاد العربيَّة والإسلاميَّة، يحتفلون بذكرى الهجرة في كلِّ سنة، ولكن!! للأسف الشَّديد، القليلُ جداً منهم؛ الذي يعرف الحكمة التي انطوت عليها حادثة الهجرة، فالحكمة من الهجرة هي: أنَّ الإسلام لا يكتفي من أهله، بالصَّلاة والصَّوم فقط، بل يريد منهم مع ذلك، أن يطبِّقوا كلَّ أوامر الله عزَّ وجلَّ، وأوامر رسوله صلَّى الله عليه وسلَّم الظَّاهرة والباطنة، في أنفسهم، وفي كلِّ أمور حياتهم اليوميَّة، كما قال الله تعالى:(يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السِّلم كافَّة ولا تتبعوا خطوات الشَّيطان إنَّه لكم عدو مبين)البقرة: 208. والسِّلم: هو الإسلام، وقال الله تعالى:(قل إنَّ صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله ربِّ العالمين)الأنعام: 162.

 

إنَّ الهجرة باقية، لم تنتهِ بعد، فقد قال صلَّى الله عليه وسلَّم:(لا تنقطع الهجرة؛ حتَّى تنقطع التَّوبة، ولا تنقطع التَّوبة؛ حتَّى تطلع الشَّمس من مغربها) رواه أبو داود و النسائي، صحيح الإرواء:(1208).
وعن عبد الله بن عمير، عن أبيه عن جدِّه، أنَّه قيل لرسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: ما أفضل الهجرة؟. قال:(مَنْ هجر ما حرَّم الله)مشكاة المصابيح:(3833).

 

وقال صلَّى الله عليه وسلَّم في حجَّة الوداع:(ألا أخبركم بالمؤمن؟. من أمِنَهُ النَّاس على أموالهم وأنفسهم. والمسلم؟. من سلِم النَّاس من لسانه ويده. والمجاهد؟. من جاهد نفسه في طاعة الله. والمهاجر؟. (من هجر الخطايا والذُّنوب)السِّلسلة الصَّحيحة:(549).

 

فلابدَّ من الهجرة، من ترك الصَّلاة مع الجماعة، والنَّوم عن الصَّلوات، إلى الصَّلاة على وقتها، مع الجماعة، في الصَّف الأوَّل.
ولابدَّ من الهجرة، من قراءة المجلات، والجرائد التَّافهة، إلى قراءة القرآن الكريم، وتدبُّر آياته.
ولابدَّ من الهجرة من سماع الأغاني، والتَّلذُّذ بالغيبة، إلى سماع القرآن، والمحاضرات المفيدة.
ولابدَّ من الهجرة من النَّظر المحرَّم، في المجلات، والأسواق، والقنوات، إلى النَّظر في كتاب الله وسنة رسوله، وسيرته، وعظمة الله في مخلوقاته.
ولابدَّ من الهجرة من الكذب، والكلام البذيء، إلى ذكر الله عزَّ وجلَّ، ودعائه والتَّلذُّذ بمناجاته.
ولابدَّ من الهجرة من الجلسات الفارغة، والتَّافهة، إلى مجالس الذِّكر، وحضور المحاضرات النَّافعة.
ولابدَّ من الهجرة من أصدقاء السُّوء، سواءً كانوا من الأقارب، أو من زملاء الدِّراسة، و العمل، الذين يصدُّون الإنسان عن سلوك طريق الالتزام والهداية، إلى الإخوة الصَّالحين الذين يدلُّون على الخير و يعينون المسلم عليه.

 

وباختصار لابدَّ من الهجرة من كلِّ ما يغضب الله، إلى كلِّ ما يرضي الله، و من كلِّ معصية يبغضها الله، إلى كلِّ طاعة يحبُّها الله .
إنَّ بداية العام الهجريِّ الجديد، فرصةٌ لكلِّ واحد منَّا؛ لكي يفتح صفحة جديدة، مع الله عزَّ و جلَّ، صفحةً بيضاء نقيَّة، يعاهد الله فيها، أن يسلك طريق الالتزام، والهداية، يعاهد الله فيها، أن يكون كتاب الله عزَّ وجلَّ جليسه، وذكر الله عزَّ وجلَّ أنيسه، وقيام الليل و صيام النَّهار سبيله، والأخ الصَّالح في الله نديمه. صفحة يعاهد الله فيها، أن يترك كلَّ معصية تبغضه، وكلَّ أغنية ماجنة من القرآن تحبسه، وكلَّ نظرة محرَّمة للقلب تقتله، وكلَّ جليس سيئ من الله يبعده. بهذا، وهذا وحده، نحيي ذكرى الهجرة النَّبويَّة الشَّريفة، ونحقِّق مقاصدها، و هذا هو الفلاح الذي يدعونا إليه المؤذِّن خمس مرات، في كلِّ يوم، عندما يدعونا إلى الوقوف بين يدي الله عزَّ وجلَّ.

 

اللهمَّ اجعل عامنا القادم، أفضل من عامنا الماضي، بتوفيقنا لطاعتك، وترك معصيتك، يا رب العالمين!!.
اللهمَّ اجعل عامنا القادم، فرصةً لقبولنا في قافلة العائدين إليك، والمنيبين إليك، يا ذا الجلال و الإكرام!!. و صلَّى الله على نبينا محمَّد، وعلى آله، وصحبه وسلَّم.