التوكل .. سلم التوفيق
15 محرم 1433
شيماء نعمان

يغفل كثير من الناس عن فضل عبادات القلوب بل يكتفي معظمهم بعبادات الجوارح دون بذل ما يكفي من اهتمام لإدراك حال القلب مع الله. فحقيقة القلب السليم المعافى أنه لا يفتر عن الإنابة إلى الله والتوكل عليه في كل شأن ومأرب.

 

ومن فضل عبادات القلوب في الإسلام قدرتها الإعجازية على تقويم حياة الإنسان وتزكية خصاله. وليكن حديثنا هاهنا عن عبادة تعتبر دليلاً على صحة القلب وهي عبادة التوكل على الله عز وجل في كافة أمور ومناحي الحياة.

 

يقول الله تعالى في محكم آياته: "وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين"؛ أي أن التوكل شرطًا للإيمان، وهو ما علمه الله عز و وجل لكليمه موسى عليه السلام في أكثر من موضع ففي البداية قال الله لكليمه: "وألق عصاك فلما رآها تهتز كأنها جان ولى مدبرًا ولم يعقب يا موسى لا تخف إني لا يخاف لدي المرسلون"؛ إلا أن عظمة الإيمان في قلب نبي الله موسى عليه السلام جعلته ينبذ مخاوفه ويدرك كيف يكون اليقين بالله والتوكل عليه بإحسان؛ فما كان منه إلا أن علم قومه كيف هي الثقة بالله والتوكل عليه، وهو ما جاء ذكره في سورة الشعراء في قوله تعالى: "فلما تراءى الجمعان قال أصحاب موسى إنا لمدركون ( 61 ) قال كلا إن معي ربي سيهدين".

 

أما رسولنا الكريم محمد صلى الله عليه وسلم، فقد كان نموذجًا فريدًا في التوكل والإنابة إلى الله، وقصته مع الأعرابي الذي أراد قتله تقدم مثالاً رائعًا في حسن الظن بالله والاعتماد عليه؛ فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نزل منزلاً اختار له أصحابه شجرة ظليلة فيقيل تحتها, فأتاه أعرابي فاخترط سيفه, ثم قال: من يمنعك مني ؟ فقال صلى الله عليه وسلم: الله، فرعدت يد الأعرابي وسقط السيف منه." اخرجه احمد

 

والحقيقة أن لعبادة التوكل ثمارا يهبها الله عز وجل للمتوكل عليه؛ فلا غرو أن يكون الإنسان المتوكل على الله يتمتع بصفات القناعة والزهد والصبر والرضا بما قسمه الله له ويقينًا لا يفتر في إن الأمر كله بيد الله، فلا يحزن على خسارة ولا يجزع من ابتلاء. ليس هذا فحسب فالتوكل الصادق على المولى سبحانه وتعالى يعالج القلب من أمراضه ويرقى بالمرء إلى مراتب أعلى في العبادة فتجد الإنسان المتوكل عبدًا شكورًا يحمد الله في كل وقت وعلى كل حال؛ وهي مرتبة لا يصل لها إلا الأتقياء وهم قلة من العباد المخلصين الذين وصفهم الله بقوله: "وقليل من عبادي الشكور"، ومن ثم يفتح الله على هذا العبد المتوكل الشكور من أبواب نعمته وفضله ويزيده من الطيبات كما جاء في الآية الكريمة: " لئن شكرتم لأزيدنكم ".

 

وقد يتصور البعض أن التوكل على الله يمنع من الأخذ بالأسباب؛ وهذا بالتأكيد ليس صحيحًا فالأخذ بالأسباب لازم لا شك فيه على كل مسلم ولكن دون تعلق القلب بغير الله وإلا سقط المرء في الخلل
وفي معنى التوكل والأخذ بالأسباب أوضح علماء الأمة كالعلامة ابن القيم رحمه الله تعالى: "أن التوكل محض الاعتماد والثقة والسكون إلى من له الأمر كله"، بينما أضاف العلامة ابن حجر رحمه الله تعالى: "إن الدنيا دار الأسباب، فالتمسك بالأسباب لا ينافي حقيقة التوكل".

 

ومن ثم كان الأخذ بالأسباب ضرورة، فما كان النبي محمد صلى الله عليه وسلم ليركن لكسل أو تواكل اعتمادًا منه على نصر الله، بل كان يأخذ بأسباب النصر فيعد العدة لغزواته وينظم الصف ويضع الخطط. وهو من علم أصحابه التأمل في حال الطير وتوكله في رزقه على الله، فقال لهم: "لو توكلتم على الله حق توكله لرزقكم ، كما يرزق الطير، تغدو خماصًا، وتروح بطانًا".

 

أما في القرآن الكريم فهناك أعظم الأمثلة على أهمية التوكل على الله مع الأخذ بالأسباب الدنيوية؛ فهاهو السلطان العادل المظفر "ذي القرنين" يتبع الأسباب، كما قال عنه الله عز وجل في سورة الكهف: " وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا (83) إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآَتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا (84) فَأَتْبَعَ سَبَبًا"، وكذلك في قوله تعالى: " وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم وما تنفقوا من شيء في سبيل الله يوف إليكم وأنتم لا تظلمون"، وجميعها آيات تحث الإنسان المسلم على التوكل لا التواكل وهكذا كان الأخذ بالأسباب مع اليقين في مسبب الأسباب هو المقصود من عبادة التوكل. وقد كان الإمام ابن القيم يقول أن التوكل نصف الدين والنصف الثاني الإنابة؛ وهي المعادلة التي تستقيم بها حياة المسلم كفرد في أسرة وعضو في مجتمع.