العمل ..والمشقة..والنتيجة
3 ربيع الأول 1433
د. خالد رُوشه

نحتاج جميعا إلى أن ننظم جهودنا , بحيث أن نصل لأفضل الآداء بما استطعنا من مجهود مناسب , كما تحتاج الدعوة الإسلامية لاستغلال طاقات أبنائها , والاستفادة من أقل مجهود بأكبر فائدة .
ومخطئون هم الذين يذهبون جهدهم هباء بلا نفع , ومخطئون ايضا الذين يبذلون الجهود الكبيرة في الأعمال بينما هم يستطيعون أن ينفقوا جهودا اقل في أعمال أكثر .

 

نحن بحاجة إلى ترشيد الجهود , إذ ليست المشقة ممدوحة في الأعمال على كل حال . بل في الأمر تفصيل شرعي وبيان تطبيقي , وكلما استطاعت الدعوات أن تصل للجودة الكاملة بأعمال مقدورة وجهود مستطاعة كلما صعدت في المستوى المرجو .

 

ونحن بحاجة كبيرة إلى تقويم الأداء لأعمالنا الدعوية كل فترة زمنية , إذ التقويم يوصلنا إلى ذلك المرجو من الجودة
وأهل العلم أوضحوا لنا أن أفضل الأعمال ما كان في مكانه وبشرطه , وبرغم اختلافهم في تدرج الثواب بقدر المشقة بقدر اتفاقهم على أنه لاغنى عن الإخلاص والمتابعة للنبي صلى الله عليه وسلم
فمنهم من يعتبر المشقة رافعة في قيمة الأعمال , وهو قول القرافي والسيوطي , فيقولان : إن الأجـر علـى قـدر المشقة، فصلاة النفل قاعداً على النصف من صلاة القائم، ، وإفراد النسك أفضل من القِران , ويستدلون بقوله صلى الله عليه وسلم لعائشة رضي الله عنها : «أجرك على قدر نصبك» رواه الحاكم وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب , وكذلك بحديث جابر رضي الله عنه قال: كانت ديارنا نائية عن المســـجد، فأردنا أن نبيــع بيوتنا فنقترب مــن المســجد فنهانا رسـول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ فقال: «إن لكم بكل خطوة درجة»أخرجه مسلم

ومنهم من قال إن الأجـر علـى قـدر المنفـعة القادمة من العمل وبه قال العـز بـن عبد السلام وابن تيمية والشاطبي وغيرهم , وقال شيخ الإسلام ابن تيمية : «ومما ينبغي أن يعرف أن الله ليس رضاه أو محبته في مجرد عذاب النفس وحملها على المشاق حتى يكون العمل كلما كان أشق كان أفضل »مجموع الفتاوي 25
 

وقال الشاطبي: «ليس للمكلف أن يقصد المشقة في التكليف نظـراً إلى عظـم أجـــرها؛ فإن المقاصــد معتبرة في التصــرفات فلا يصلح منها إلا ما وافق الشارع. فإذا كان قصد المكلف إيقاع المشقة فقد خالف قصد الشارع من حيث إن الشارع لا يقصد بالتكليف نفس المشقة، وكل قصد يخالف قصد الشارع باطل، الموافقات

 

وقال ابن حجر معقباً على النووي في قوله: (ظاهر الحديث «أجرك على قدر نصبك» أن الثواب والفضل في العبادة يكثر بكثرة النصب والنفقة) قال : «وهو كما قال، لكن ليس ذلك بمطرد، فقد يكون بعض العبادة أخف من بعض وهو أكثر فضلاً وثواباً بالنسبة إلى الزمان كقيام ليلة القدر بالنسبة لقيام ليالٍ من رمضان غيرها، وبالنسبة للمكان كصلاة ركعتين في المسجد الحرام بالنسبة لصلاة ركعتين في غيره، »فتح الباري

 

واستدلوا بما روي عن عقبة بن عامر أنه قال: نَذَرت أختي أن تمشي إلى بيت الله حافية، فقال - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله لغني عن نذرها، مُرها فلتركب»مسلم وبحديث جويرية رضي الله عنها في تسبيحها بالحصى أو النوى وقد دخل صلى الله عليه وسلم عليها ضحى، ثم دخل عليها عشية، فوجدها على تلك الحـال، فقـال لها: «لقـد قلـت بعـدك أربـع كلمات ثلاث مـرات، لو وزنت بما قلتِ منذ اليوم لرجحت»رواه مسلم , وحديث : «إن الدين يسر ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه؛ فسددوا وقاربوا وأبشروا، واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة، والقصد القصد تبلغوا»البخاري , وبما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً قائماً في الشمس، فقال: «ما هـذا؟ ». قالــوا: هـذا أبو إســرائيل، نذر أن يقوم في الشمس ولا يستظل ولا يتكلم، ويصوم. فقال - صلى الله عليه وسلم -: «مروه فليجلس وليتكلم وليتم صومه»أخرجه البخاري

 

قال الزركشي : " وقد يفضل العملُ القليلُ على الكثير في صور : منها : قصر الصلاة أفضل من الإتمام للمسافر  , ومنها : الصلاة مرة في الجماعة أفضل من فعلها وحده خمسا وعشرين مرة  , ومنها : تخفيف ركعتي الفجر أفضل من تطويلهما  , ومنها : التصدق بالأضحية بعد أكل لقم منها أفضل من التصدق بجميعها . - " المنثور في القواعد "  -

 

وقال الشيخ ابن عثيمين  :
" كذلك أيضاً من التشديد في العبادة ، أن يشدد الإنسان على نفسه في الصلاة أو في الصوم أو في غير ذلك مما يسره الله عليه ، فإنه إذا شدد على نفسه فيما يسره الله فهو هالك .
ومن ذلك ما يفعله بعض المرضى - ولا سيما في رمضان - حين يكون الله قد أباح له الفطر وهو مريض ، ويحتاج إلي الأكل والشرب ، ولكنه يشدد على نفسه فيبقى صائماً ، فهذا أيضاً نقول إنه ينطبق عليه الحديث : هلك المتنطعون .

 

ومن ذلك ما يفعله بعض الطلبة المجتهدين في باب التوحيد ؛ حيث تجدهم إذا مرت بهم الآيات والأحاديث في صفات الرب عز وجل جعلوا ينقبون عنها ، ويسألون أسئلة ما كلفوا بها ، ولا درج عليها سلف الأمة من الصحابة والتابعين وأئمة الهدى من بعدهم .... قال : ومن ذلك أيضاً ما يفعله بعض الطلبة من إدخال الاحتمالات العقلية في الدلائل اللفظية ؛ فتجده يقول : يحتمل كذا ويحتمل كذا ، حتى تضيع فائدة النص ... قال : ومن ذلك أيضاً ما يفعله بعض المتشددين في الوضوء ، حيث تجده مثلاً يتوضأ ثلاثاً أو أربعاً أو خمساً أو سبعاً أو أكثر ، وهو في عافية من ذلك . أيضاً في الاغتسال من الجنابة ، تجده يتعب تعباً عظيماً عند الاغتسال ، في إدخال الماء في أذنيه ، وفي إدخال الماء في منخريه .

 

وكل هذا داخل في قول الرسول عليه الصلاة والسلام : ( هلك المتنطعون . هلك المتنطعون . هلك المتنطعون ) - "شرح رياض الصالحين" (1/416-418) –
ويبدو جليا أهمية نوعية العمل وقيمته وقدره في حديث الصحيح "ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها"  مسلم
وقد بين العلماء أن مثال ذلك مثال من حج ماشياً ورفض الركوب ؛ فإن ذلك فيه جهد ومشقة تستلزم منه مضار كفقدان الخشوع ، بينما لو ركب واستعمل هذه الوسائل لأغنته عن الحاجة إلى الراحة الكثيرة .

يستثنى من ذلك ما ذكره العز بن عبد السلام: «إذا اتحد الفعلان في الشرف والشرائط والسنن والأركان، وكان أحدهما شاقاً فقد استويا في أجرهما لتساويهما في جميع الوظائف، وانفرد أحدهما بتحمل المشقة لأجل الله - سبحانه وتعالى-، فأثيب عليها" قواعد الأحكام 1-31،

 

قالوا : كالاغتسال في الصيف بالنسبة إلى الاغتسال في شدة بالبرد فإن أجرهما سواء، ويزيد أجر الاغتسال في الشتاء لأجل تحمل مشقة البرد , بينما لو قدر على استعمال الماء الدافئ فهو أفضل له من تركه إياه

 

قال شيخ الإسلام :
" فأما كونه مشقًا، فليس هو سببًا لفضل العمل ورجحانه، ولكن قد يكون العمل الفاضل مشقًا، ففضله لمعنى غير مشقته، والصبر عليه مع المشقة يزيد ثوابه وأجره، فيزداد الثواب بالمشقة، كما أن من كان بعده عن البيت في الحج والعمرة أكثر، يكون أجره أعظم من القريب كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة في العمرة "أجرك على قدر نصبك‏" لأن الأجر على قدر العمل في بعد المسافة، وبالبعد يكثر النصب فيكثر الأجر، وكذلك الجهاد، وقوله صلى الله عليه وسلم "الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام البررة، والذي يقرأه ويتتعتع فيه، وهو عليه شاق له أجران‏"‏‏‏ الفتاوى

 

وقال :" وقد يكثر الثواب على قدر المشقة والتعب، لا لأن التعب والمشقة مقصود من العمل، لكن؛ لأن العمل مستلزم للمشقة والتعب، هذا في شرعنا الذي رفعت عنا فيه الآصار والأغلال، ولم يجعل علينا فيه حرج، ولا أريد بنا فيه العسر، وأما في شرع من قبلنا، فقد تكون المشقة مطلوبة منهم‏ "الفتاوى

 

والحقيقة أننا نحتاج إلى تلك الرؤية التي توازن بين النتائج والجهود , فإن جهودا تبذل وأموالا تنفق لمصلحة الإسلام , لكن أثرها غير متكافىء معها بحال .