أما آن لنا أن نعلم من أين أتينا ؟!
13 ربيع الأول 1433
د. عبد المجيد البيانوني

صدمة نفسيّة قاسية .! أمٌّ ، نعم أمٌّ هذه المرّة ، وليست عاملة منزليّة .! أمٌّ تجرّدت عن كلّ أبجديّات الأمومة والأنوثة ، ضربت ابنتها ذات السبع سنوات بمفكّ من حديد ، ضربات لا تحصى .. حتّى نزفت دماؤها ، وغابت عن وعيها ، وفارقت الحياة .. حادثة تقع في بلاد المسلمين ، تضاف إلى مثيلتها من الحوادث المشابهة القريبة .. والباب مفتوح ، والقادم أعظم ، وإنّها لفتن يرقّق بعضها بعضاً .!

أيّ قلب هذا .؟! ونحن لا نتصوّر أن تُضرَب هرّة بهذه الصورة حتّى الموت .؟! وماذا أبقت هذه الأمّ من عاطفة الأمومة .؟! أو فطرة الأنوثة .؟! أو معنى الإنسانيّة .؟!

وكيلا يسارع بعض المدافعين المبرّرين فيقول : قطعاً إنّها مجنونة ، أو مريضة نفسيّاً ، أو لها مشكلة عميقة مع زوجها ، أو هي تعاني من اضطهاد في طفولتها ، وتجارب مريرة .. أو أو .. وإلاّ فهذا من أفلام الرعب ، أو أخبار الكذب .!

كلاّ ، يا أيّها السادة .! الخبر واقعيّ غير مفترى .. وليس بخيال تمثيليّ ، أو هلوسة محموم .. والمرأة كما يقول زوجها ، عاقلة غير مجنونة ، ولا مريضة نفسيّاً ، والقصّة جرت على أرضنا ، وليس في كوكب المرّيخ ..

والأمر كما جرى يهزّ الضمائر الغافلة الغافية ، وينذر بخطر كبير ، فقد كاد أن يبلغ حدّ الظاهرة الاجتماعيّة ، وبخاصّة إذا وضعنا في الاعتبار انتقال المجتمع من ثقافة الحبّ والرحمة ، والعطف والشفقة ، والحنان على الأطفال والنساء والضعفاء ، إلى ظاهرة تنتزع منها كلّ هذه المعاني الإنسانيّة ، وتجنح بعيداً بعيداً إلى حدّ التعذيب حتّى الموت .. وعلى يد من .؟! على يد أقرب الناس إلى الطفل ، وأحبّهم إلى قلبه .. إنّه أحد والديه ..

ويالها من كارثة نفسيّة وعقليّة ، إن نحن أكملنا سباتنا ، وقلنا : إنّها حادثة شاذّة ، لا تعكّر علينا أخلاقنا ، ولا تشوّه صورة مجتمعنا ، ولا تخدش وجه ثقافتنا ..

ولكنّ الحقيقة أيّها السادة ! غير ذلك .. إذ لا تكاد تمرّ أيّام قليلة حتّى نفجع بمثل هذه الحادثة المروّعة .. فنقف عندها نثرثر كثيراً ، ونفلسف ونبرّر ، ومنّا من يحوقل ، ومن يقول : الحمد لله الذي عافانا .. ثمّ نمضي إلى توافه اهتماماتنا ، ولا يفزعنا المنحدر الخطير الذي تتسارع فيه خطانا ، ولا يحرّك مشاعرنا ورواكد تفكيرنا ..

فهلاّ من وقفة صدق مع أنفسنا وواقعنا .؟! وأن نفكّر من أين أتينا .؟! ولماذا كلّما تقدّمنا خطوات في طريق الثقافة الظاهرة انتكسنا أضعافها في أخلاقنا وقيمنا .؟!

إنّنا بكلّ صدق بحاجة إلى ثورة في التفكير ، تتبعها خطط عمليّة ، وبرامج حيويّة ، وقائيّة وعلاجيّة ، لتغيير هذا الواقع وإصلاحه ..

إنّنا نحتاج إلى التحرّر من عقليّة العصبيّة للآراء ، وتصلّب المواقف والاتّجاهات ، وضياع الوقت وراء المماحكات الفارغة ، والمناوشات الصحفيّة الهازلة ، وهراء الجدل البيزنطيّ العقيم ، في توافه أمور ، لا تقدّم ولا تؤخّر ..

ومع تقديرنا أن الظواهر الاجتماعيّة لا يقف عادة وراءها سبب واحد ، وإنّما جملة أسباب ومؤثّرات ، فإنّ البحث الجادّ يقتضينا أن نضع أيدينا على السبب الأكبر ، الذي لا تعمل الأسباب الأخرى عملها دونه ..

وكيلا يظنّ بنا إهمال الأسباب الأخرى وتجاهلها ، وهي التي تشكّل البنية التحتيّة ، والبيئة الخصبة ، بل المناخ العفن للسبب الأكبر ، فإنّنا نبدأ بأهمّ هذه الأسباب ، ثمّ نقف عند السبب الأكبر في اجتهادنا ، وهذه الأسباب هي : التخلّف التربويّ .. وضعف الوازع الدينيّ .. وتأثير البيئة المتخلّفة .. وغيبة القوامة أو ضعفها ..

هذه أهمّ الأسباب ، فما الحلّ لهذه الظاهرة .؟

وهنا جملة رؤى وتصوّرات عن حلول :

أيعطى كلّ طفل بلغ الثالثة من العمر أرقام الشرطة ، وجمعيّات الدفاع عن الطفولة ، أو أرقام مليشيات التدخّل السريع لإنقاذ الطفولة .؟ ليتّصل بها عند الضرورة ، كما يحدث في بعض بلاد الغرب ..

أم نضع على باب كلّ منزل مخبراً سرّيّاً ، أو مأمور محكمة ، أو شرطيّاً يتحسّس الأصوات ، ويسارع إلى التدخّل إن اقتضى الأمر ، لإنقاذ زوج أو زوجة ، أو طفل أو طفلة .؟

أم نشيع ثقافة الدفاع عن النفس ، ولو كان ضدّ الآباء والأمّهات .؟

أم نحظر على البيوت حظراً شديداً كلّ أدوات الجرح والحرق والقتل ، وكلّ الأدوات المعدنيّة ، ونستبدل بها الأدوات الورقيّة والبلاستيكيّة الخفيفة .؟

واعذروني إن كانت بعض هذه الحلول مضحكة .. فشرّ البليّة ما يضحك .. ولعلّ هذا المضحك أحكم وأولى في نظر بعض الناس من الحلّ الأحكم الأمثل ، الذي قرّره لنا العليم الحكيم وارتضاه .. وهو حقّ الولاية على المرأة والقوامة ..

هذا الحقّ الذي شُوّه سلوكاً ، وحُورب من بعض أبنائنا ، ومن أعدائنا ، بلا هوادة ، وبكلّ سلاح ، وأُقصي عن الواقع بكلّ قوّة ووسيلة ، وخلّف وراءه فراغاً ملأته هذه المسالك المنحرفة ، التي نئنّ منها اليوم ، وتترنّح قيمنا على مذبحه ..

نعم ، القوامة على المرأة هي الحلّ الشرعيّ والفطريّ ، الذي هربنا منه ، وحاربناه .. والخروج عنه هو الذي أوردنا المآسي والمهالك ، ولا ملجأ لنا إلاّ إليه ، مهما تنكّبنا سبيله ، وأطلنا على أنفسنا الطريق ، وتلوّت بنا المسالك ..

وإنّ من مآسي تخلّفنا أنّنا عندما نرى إساءات بعض الناس في تطبيق بعض القوانين نحارب القانون نفسه ، ونصبّ عليه جام غضبنا ، ونعلّق عليه مصائبنا ، ونتجاهل السلوك المسيء ، وكأنّه حتم مقضيّ عن هذا القانون ، ولا نعالج استغلاله للقانون أو سوء فهمه .. ولهذا الأمر نماذج كثيرة ، لا يتّسع المقام لعرضها ..

الحلّ الشرعيّ والفطريّ أيّها السادة ! هو الولاية على المرأة ، قبل أن تتزوّج ، وقوامة الزوج عليها بعد أن تتزوّج .. الولاية والقوامة بمفهومهما الشرعيّ ، وأحكامهما الفقهيّة ، لا بمفهوم الناس وعاداتهم وتقاليدهم ، التي يشوّهون بها جمال الإسلام وحقائقه ، ويسيئون إلى مبادئه وأحكامه ..

وأظنّ ظنّ اليقين لا الشكّ أنّ الولاية والقوامة بمفهومهما الشرعيّ ، وأحكامهما الفقهيّة لو كانت حاضرة في مجتمعاتنا غير مغيّبة ، لسلمنا من نسبة كبيرة من الطلاق ، وما يتبعها من تفكّك الأسر ، وتشرّد الأطفال .. ولسلمنا من تفاقم ظاهرة العنوسة ..

ولو أنّ القوامة في هذه الحادثة كانت حاضرة غير مغيّبة ، لرأينا الرجل يعالج هذه الظاهرة الخطيرة من عصبيّة زوجته ، وضربها المبرّح لأطفالها ، يعالجها بوعي تربويّ ، ومسؤوليّة شرعيّة ، قبل أن تستفحل ، وتؤدّي إلى هذه الجريمة النكراء ..

لقد كان من مقتضى قوامة هذا الرجل على زوجته أن يعظها ويذكّرها ، فإذا تكرّر الأمر منها حذّرها عاقبة عملها وزجرها ، واشتدّ في لهجته وإظهار غضبه ، فإن تمادت استعان بأهلها وببعض المؤسّسات التربويّة لإصلاحها ، وأحاطهم علماً بأمرها ، فإن لم تستجب أعلن لها ولهم ، أنّه يُلزمها بكفّ يدها مطلقاً عن ضرب أطفاله ، فإن لم تستجب هدّدها بالضرب قصاصاً إن ضربت أطفالها ضرباً مبرّحاً ، يخرج عن الحدّ المأذون به شرعاً ..

وأظنّ أنّ ذلك كلّه لو قام به ، فهو دون هذه النتيجة الفاجعة ، التي آل الأمر إليها ، وتركت الباب مفتوحاً لأمثالها من الفواجع ، وأمثال أمثالها ..  

الحقّ إنّ بعض الرجال والنساء يحتاجون إلى معالجة خاصّة ، لا يقوم بها إلاّ حقّ الولاية أو حقّ القوامة .. ولا يضرّ ذلك الأسوياء من الطرفين ، ولا ينتقص من مكانتهم ..وشرع الله جلّ وعلا لم يترك شاذّة ولا فاذّة إلاّ وضع لها من الأحكام ما يناسبها ، ففيم نفرة بعض الناس من شرع الله وأحكامه .؟! وهو الحصن والوقاية ، والبلسم والعلاج .        

نسأل الله تعالى بأسمائه الحسنى وصفاته ، أن يحبّب إلينا الإيمان ، ويزيّنه في قلوبنا ، ويكرّه إلينا الكفر والفسوق والعصيان ، ويجعلنا من الراشدين .