قد يبدو الحديث عن التربية الجمالية ضربا من الترف الفكري إذا قورن بطبيعة وحجم الإشكالات التي يواجهها المجتمع الإسلامي المعاصر .إلا أن ما نعايشه من هبوط مريع في مستوى الذوق العام , وانسياق الإعلام العربي خلف تصور للجمال يقرنه بمبدأي اللذة و المنفعة يدفعان بهذا الحديث إلى تصدر قائمة الإشكالات !
فليس خفيا ما يصبو إليه التدفق الإعلامي من تنمية لنزعة الاستهلاك لدى الفرد , وإعادة تشكيل القيم بما يتوافق مع أجندة الاكتساح الثقافي التي تتبناها العولمة .و بالنظر لما ينطوي عليه الجمال من قدرة على توجيه الاستجابة الوجدانية للفرد فإن من شأن التحكم فيه أن يُكسب وسائل الاتصال قوة جذب تؤثر على سلوك الفرد وقناعاته , وتهيئه للانقياد و التبعية .
إن الإنسان هو الكائن الوحيد الذي حباه الله القدرة على الإحساس بالجمال , والتجاوب مع المشاهد الكونية التي تجسد عظمة الخالق سبحانه .وهي قدرة فطرية لا تخضع لمقاييس مسبقة , بل تكفيها لمحة جمال واحدة لتهتز أوتار النفس سرورا وطربا , إذ "لاشك أن هناك حاسة في باطن النفس تفطن للجمال وتحسه وتستجيب له , ولكنها لا تحسب ولا تقدر , وإنما تدركه بداهة بغير تفكير على طريقة الروح في الإدراك لا على طريقة الذهن ذي الأبعاد و المقاييس " (1) .
و التصور الإسلامي للجمال يقرنه بالالتزام الأخلاقي ليكتسب حقيقته ومعناه , وبالتالي يكون باعثا على الفضيلة , و التفاعل الإنساني الراقي مع كل عناصر الكون , بدء من تأمل ذاته ووصولا إلى كل ما يجسد علاقته بخالقه .ففي الحديث النبوي " لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر , قال رجل : إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنا ونعله حسنا فقال صلى الله عليه وسلم : إن الله جميل يحب الجمال , الكبر بطر الحق وغمط الناس" (2) تبدو تخوم الجمال محددة بإطار أخلاقي يجعل من الحس الجمالي مدخلا للسمو بالنفس الإنسانية وتطهيرها من نوازع الشر .
وإذا كان حب الجمال قائما في بنية النفس الإنسانية , ويعكس صحة الذوق و سلامة الفطرة , فإنه لا يحتاج إلى دربة ومران على استدعائه لحظة التفاعل مع الموجودات .غير أن المنهج الإسلامي , الذي ينطلق من تصور شمولي ومتكامل للوجود الإنساني , حرص على تنمية هذه الموهبة , واستحث الإنسان على أن يتخطى بإمكاناته الجمالية حدود عالم المادة الجامدة صوب عالم الفكر ,وهو ما تنبه له أبو حامد الغزالي حين ميز بين طائفتين من الجمال : ظاهر يُدرك بالحس , وباطن يُدرك بالقلب .لذا فالخبرة الجمالية للمسلم لا تنحصر في تأمل الطبيعة فحسب , بل هي مصاحبة للعبادة , ومجسدة في شتى مظاهر صلته بالخلق و الخالق .
يتلو المسلم قوله تعالى " يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد" الأعراف32 , فيستشعر البعد الجمالي لوقوفه بين يدي ربه .
ويتلو قوله سبحانه " إن الله يحب التوابين و يحب المتطهرين" البقرة 222 فيُدرك أن النظافة كعامل أساسي في الجمال , لم تعد أمرا فطريا فحسب , بل صفة تُنال بها محبة الله تعالى .
ويستعرض أدعية النبي صلى الله عليه وسلم عند بزوغ الهلال أو هطول المطر , فيلمس مدى حرصه على الاستقبال الجمالي لعناصر الكون )3)
هذا التصور الذي يرتقي بالظاهرة الجمالية , ويؤهل النفس الإنسانية للتجاوب مع روح الكون و الوصول إلى رحاب الخالق يستلزم حتما وضع قواعد وأسس تربوية تنمي الحس الجمالي , وتولد لديه الاستعداد للتذوق و التأمل و الملاحظة .
إن الأسرة هي الفضاء الأول الذي يعيش فيه الطفل أولى مراحل تذوقه و إحساسه بالجمال .فكلما حرصت الأم على تعهده والعناية بنظافته و ملبسه , وراعت التناسق و الترتيب و النظام داخل البيت إلا و أسهمت بشكل كبير في تكوين معايير إيجابية للتذوق لدى طفلها , وأغنت خبرته الجمالية .
أما من ناحية السلوك فإن تعويد الطفل على التحلي بالآداب الإسلامية , وتهيئة المواقف السليمة التي تقترن فيها الجمالية بالخيرية يُجنبه مغبة الانسياق خلف صور الجمال الزائف , ويستحث قدراته و إمكاناته لتمثل القيم الجمالية في سلوكه اليومي .
و بانتقال الطفل إلى فضاء المدرسة , تصبح هذه الأخيرة مسؤولة بشكل مباشر عن تدريب حواسه على رؤية الجمال , وتوفير مناخ تربوي كفيل بتحرير مواهب الطفل , وتفجير طاقاته
وهنا تجدر الإشارة إلى القصور الذي يعتري تصور المناهج التربوية الحديثة للجمال , حين تحصره في أنشطة " رسم , موسيقى , رقص ..." وهي أنشطة تقوم على إحداث خلل في الشخصية , لذا نراها ممنوعة شرعا , بينما يقوم التصور الإسلامي على بعثه في كل المجالات التي يمتد إليها النشاط الإنساني , ومراعاة التوازن بين الجمال الحسي و المعنوي .
ولتدارك هذا القصور ينبغي إعادة النظر في المنهجية المتبعة لتقديم المعرفة الدينية عبر مختلف الأسلاك التعليمية , وتعزيز الشعور الديني للأطفال باعتماد طرق فاعلة تتجاوز الحفظ و التلقين الآلي .
أما الإعلام فإن دوره الآكد في إشاعة القيم الجمالية , والسمو بالعلاقات الإنسانية يتطلب الإعداد الجيد للخطط و الكوادر المبدعة , واعتماد نموذج إعلامي متساوق مع الرؤية الإسلامية .
ورغم ما نعايشه من تبعية إعلامية سافرة للنموذج الغربي المنحاز لسطوة الجمال الشائه , و الممعن في تبخيس الكائن الإنساني , وتغليب شهوة الجسد على سبحات العقل , إلا أن تجليات الصحوة الإسلامية أسهمت بشكل كبير في توجيه النشاط الإعلامي لإعطاء صورة متوازنة نسبيا , و خلق مناخ ملائم لترسيخ القيم الدينية .
إن التربية الجمالية لا تقف عند حدود التذوق الفني للطبيعة و الأشياء , بل هي مدخل ضروري لاستجلاء الحقيقة الإسلامية . وكلما تخلصت النفس البشرية من سطوة المادة إلا وانفتحت أمامها آفاق الجمال الكوني , فتمتزج قبضة الطين و نفخة الروح بأرقى صور العبودية !
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) : الأستاذ محمد قطب . منهج الفن الإسلامي .دار الشروق .ط 6 1983. ص : 85.
(2) : رواه مسلم و الترمذي من حديث ابن مسعود رضي الله عنه .
(3) : صالح أحمد الشامي .التربية الجمالية في الإسلام .المكتب الإسلامي .ط 1 1988 ص: 61