شخصيّة المسلم وطبيعة التربية
2 جمادى الثانية 1433
د. عبد المجيد البيانوني

الأصل في شخصيّة المسلم أن تكون سويّة متكاملة ، لا يطغى فيها جانب على آخر ، كما يقع في المجتمعات التي تتحكّم فيها الأهواء والنزوات ، والبدع والضلالات .. إنّها طائعة لله تعالى ، مستجيبة لهديه ، أوّابة له ، مؤمنة بقضائه وقدره ، تعمل في الدنيا وقلبها معلّق بالآخرة ، همّها دائماً أن تحظى بمرضاة الله ومغفرته .

 

 

وهي شخصيّة متوازنة تعطي الجسم حقّه من العناية ، والمظهر ما يستوجبه من الرعاية ، ولا يلهيها المظهر عن المخبر ، وتعنى بما يكوّن العقل الراجح ، والتفكير السديد ، والمنطق السليم ، والفهم العميق لحقائق الأشياء ، والنظرة النافذة إلى لبّها وجوهرها ، ولا يعزب عنها أنّ الإنسان ليس مكوّناً من جسم وعقلٍ فحسب ، وإنّما له قلب يخفق ، وروح ترفرف ، وأشواق عليا تدفعه إلى الاستعلاء على هذه الحياة المادّيّة وحطامها ، والصعود في معارج الخير والفضيلة والنور ، ومن ثمّ فهي تعنى بالتربية الروحيّة ، كما تعنى بالتربية الجسميّة والعقليّة سواءً بسواء ، في توازن دقيق ، فلا يطغى جانب من هذه الجوانب على جانب آخر " ([1]) .

 

 

* ـ وإنّ طبيعة التربية تقوم على العلم والفنّ ، والموهبة والأخلاق .. علم وخبرة يتعلّمهما الإنسان من الكتب أو من تجارب الآخرين أو من تجاربه هو الشخصيّة .. وفنّ يطبّق به العلم الذي تعلّمه بصورة صحيحة تناسب الحالة التي أمامه .. وموهبة تجعل إنساناً من الناس أقدر على التربية والتوجيه من إنسان آخر .. وأخلاق يستطيع بها الإنسان أن يترجم علمه وفنّه ومواهبه لتحقّق له المقاصد والأهداف التي يريدها ..

 

 

ولقد أوتي المربّي الأعظم صلى الله عليه وسلم ذلك كلّه وأعظم منه .. أوتي فوق ذلك من الله تعالى وحياً ، وعلماً لدنّيّاً ، إذ صنعه الله على عينه ، وأمدّه بوحيه ، ليكون للعالمين هادياً ونذيراً ، وسراجاً منيراً ..

ومن ثمّ فإنّ المربّي لابدّ له لينجح في عمله ، وليكون قدوة وأسوة للآخرين أن يتحقّق بصفات تؤهّله لهذه المهمّة الخطيرة ، أهمّها :

 

 

 ـ أن تكون شخصيّته أكبر ممّن يربّيه وأعلى ، وأن يحسّ من يتلقّى منه التربية أنّه في موقف الآخذ المتلقّي ، لا في موقف الندّ ، ولا في موقف أعلى من موقف المربّي .

 

 ـ أن يكون عند المربّي ما يعطيه ويقدّمه للمتلقّي ، من علم أو تجربة وخبرة .

 

 ـ أن يكون المربّي حسن الإعطاء لما يعطي ، فلا يكفي أن يكون عنده ما يعطيه ، كما لا يكفي أن يكون ذا شخصيّة أكبر ممن يتلقّى عنه .. بل لابدّ أن يكون أسلوبه في التربية والعطاء يجعله قادراً على تحقيق مقاصده ، والوصول إلى غايته ، وإلاّ ضاع الأثر المطلوب ، أو انقلب إلى ضدّ المقصود ..

 

 

والضمانة الأولى لتحقيق ذلك هي الحبّ ، فما لم يشعر المتلقّي أن مربّيه يحبّه ، ويحبّ له الخير ، فلن يقبل على التلقّي منه ، ولو أيقن أنّ عنده الخير كلّه ..

 

ولكنّ الحبّ وحده كذلك لا يكفي .. فقد تحبّ طفلك ، وتحبّ الخير له ، ولكنّ طريقتك في تقديم الخير له تشكّكه في حبّك له ، وتوهمه أنّك تكرهه ولا تحبّه .. لأنك تقدّم له ذلك بصورة فظّة غليظة ، لا رفق فيها ولا لين ، ولا عطف فيها ولا شفقة ..

 

من أجل ذلك يمنّ الله على رسوله صلى الله عليه وسلم بهذه الموهبة النبيلة في شخصه الكريم ، فيقول سبحانه: (  .. وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ.. (159) )آل عمران .

 

واللين مع ذلك ليس معناه ترك الحبل على الغارب ، حتّى تصير الأمور سائبة مميّعة ، وإنّما معناه ما عبّر عنه القرآن : عدم الغلظة والفظاظة ، أمّا الحسم فأمر ضروريّ في التربية في بعض الأحيان إلى جانب الرفق واللين .

 

فاللين في موضعه ضروريّ في التربية ، والحسم في موضعه كذلك ضروريّ على نفس المستوى ، وإنما المنهي عنه هو الفظاظة وغلظ القلب ، لأنّها لا تأتي بخير ، وتؤدّي إلى النفور والانفضاض ، بدل التأثير والتقويم .

 

 ـ أن يكون المربّي مهتمّاً بالأخرين ، حريصاً على أن يعطيهم ما عنده من الخير ، وهذا ما وصف به النبيّ صلى الله عليه وسلم في قول الله تعالى : (  لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (128) ) التوبة .

 

 ـ أن يكون المربّي قادراً على المتابعة والتوجيه المستمرّ  ، إذ إنّ التريية عمليّة مستمرّة ، لا يكفي فيها توجيه عابر ، مهما كان مخلصاً ، ومهما كان صواباً في ذاته ، وإنما الأمر يحتاج إلى المتابعة والتوجيه المستمرّ .

 

إنّ المتلقّي نفس بشريّة ، وليس آلة صمّاء تضغط على أزرارها مرّة ثمّ تتركها وتنصرف إلى غيرها ، فتظلّ على ما تركتها عليه ..!

 

إنّ النفس البشريّة دائمة التقلّب ، متعدّدة المطالب والاتّجاهات .. وكلّ تقلّب ، وكلّ مطلب ، وكلّ اتّجاه بحاجة إلى توجيه ..

 

فالعجينة البشريّة عجينة عصيّة ، تحتاج إلى متابعة دائماً ، وليس يكفي أن تضعها في قالبها المضبوط مرّة ، فتنضبط إلى الأبد ، فهذا الأمر غير ممكن .. بل هناك عشرات من الدوافع الموّارة في تلك النفس .. دائمة البروز هنا ، والبروز هناك ، ودائمة التخطّي لحدود القالب المضبوط من هنا ومن هناك ، ولابدّ في كلّ مرّة من توجيه لإعادة ضبطها داخل القالب ، حتّى تنطبع نفس المتلقّي بالتوجيه  ، فيقوم هو بذاته بعمليّة الضبط والمتابعة بدلاً من المربّي .. ولكن لا يحدث أبداً أن يستغني الأمر عن المتابعة والتوجيه والضبط ، من المربّي أو المتلقّي على حدّ سواء ! 

 

ومن هنا تأتي مشقّة التربية وخطورتها ، وضرورتها في ذات الوقت .. فإمّا هذا الجهد الدائب .. وإمّا الضياع .! 

 

والإنسان الذي لا يجد في نفسه الطاقة الحيويّة ، والنفس الطويل على المتابعة والتوجيه المستمرّ شخص لا يصلح للتربية ، ولو كان فيه كلّ جميل من الخصال .!

 

وليس معنى التوجيه المستمرّ هو المحاسبة على كلّ هفوة ! فذلك ينفّر ولا يربّي ! فالمربّي الحكيم يتغاضى أحياناً أو كثيراً عن الهفوة وهو كاره لها ، لأنّه يدرك أنّ استمرار التنبيه إليها قد يحدث ردّة فعل مضادّ في نفس المتلقّي ..! ولكنّ إهمال التنبيه ضارّ كالإلحاح فيه ..

 

وحكمة المربّي ، وخبرته وموهبته هي التي تدلّ على الوقت الذي يحسن فيه التغاضي ، والوقت الذي يحسن فيه التوجيه ..

 

ـ ولكن ينبغي التنبّه دائماً من جانب المربّي إلى سلوك من يربّيه ، سواء أقرّر تنبيهه في هذه المرّة أو التغاضي عمّا يفعل ، فالتغاضي شيء ، والغفلة عن التنبيه شيء آخر ، أوّلهما قد يكون مطلوباً بين الحين والحين ، أمّا الثاني فعيب في التربية خطير ..

 ـ وينبغي سادساً أن يكون المربّي قادراً على القيادة ، مع قدرته على المتابعة والتوجيه .

 

والقيادة موهبة توحي للمتلقّي أن يتلقّى أوّلاً ، وأن يطمئنّ لما يتلقّى ثانياً ، ثمّ أن يطيع ، وبغير ذلك لا يكون للتوجيه جدوى ، ولا يتمّ من عمليّة التربية شيء ، ولو كانت التوجيهات صحيحة ، ولو كانت عند المربّي القدرة على المتابعة والاهتمام ، ولا معنى للقيادة بغير الطاعة والانقياد ..

 

فلا يكفي أن تصدر الأمر ، ولو كان الأمر صحيحاً في ذاته ، وضروريّاً في مناسبته ، إنّما ينبغي أن تكون لديك القدرة على جعل المتلقّي يستجيب لك ، وينفّذ ذلك الأمر ، وإلاّ فالنتيجة أسوأ من عدم إصدار الأمر على الإطلاق ..

 

فحين تصدر الأمر للمتلقّي ، ثمّ لا ينفّذه عناداً ، أو استخفافاً بمن أصدر إليه الأمر .. فقد انتهت المسألة ، وانقطع الخيط .. ولا جدوى في الاستمرار ، ما لم ينفّذ الأمر السابق ..

 

وكثير من الآباء والمربّين يرى المتلقّي يستخفّ بأمره ونهيه ، فلا يعير لذلك شيئاً من انتباهه ، وخير له ألاّ يكون قد أصدر ذلك الأمر ، من أن يكون أصدره ، ولم يبال بتنفيذه ..

 

 

حقّاً قد يحدث أحياناً أن يكون العيب في المتلقّي ، لأنّه عاصٍ متمرّد ، شاذّ الطبع .. ولكنّا هنا ونحن نتحدّث عن المربّي نشير إلى هذه البديهيّة ، وهي أنّ من يعجز عن القيادة لا يصلح للتربية ، ولو كان في ذاته طيّباً مشتملاً على كلّ جميل من الخصال .. وليس كلّ إنسان طيّب الخصال قادراً على القيادة ولا الزعامة ، ولا مطالباً بها كذلك .. فهي أصلاً موهبة لدنّيّة تصقلها التجارب ، وتزيدها مضاء وقدرة ، ولكنّها لا تنشئها حيث لا تكون ..

 

وقد يظنّ الناس الأمر هيّناً بالنسبة للآباء ، وهم يربّون أطفالهم ، لأنّهم قادرون على فرض إرادتهم عليهم بطريقة مّا .. ولكنّهم كثيراً ما يستهينون بإرادة أطفالهم ، فيسيئون التصرّف فينمو عند الأطفال العناد ويتأصّل ، فيفسدون أطفالهم في النهاية من حيث يريدون لهم الخير ..

 

وبالنسبة لتربية الكبار فيتحتّم أن يكون المربّي قادراً على القيادة بمؤهّلاتها وصفاتها ، وأن يكون له من شخصيّته ما يفرض طاعته على الناس بغير سلطان ، سوى سلطان الحبّ والرغبة ..

 

هذه الخصال الستّ  ([2]) ، هي الخصال الضروريّة للمربّي ، لكي يتمكّن بصورة مثاليّة من القيام بمهمّته الخطيرة في تربية الآخرين ..

 

وإنّ طفلاً واحداً يتربّى هو بحاجة إلى هذه الخصال الستّ ، كأمّة كاملة تتربّى .. ولكن شتّان في  الدرجة بين الطفل الواحد والأمّة الكاملة .. فكلّما زادت رقعة التربية ، وزاد عدد المتلقّين كانت الدرجة المطلوبة من هذه الخصال أكبر ..

 

فكلّ إنسان قد يصلح أن يكون مربّياً في حدود بيته وأطفاله ، وإن كان كثير من الآباء والأمّهات يعجزون .!

 

ولكنّ تربية أربعين طفلاً في فصل من مدرسة مهمّة تحتاج إلى موهبة أكبر ، وإلى قدر من الخصال المطلوبة أكبر ، وإلى علم وتجربة أكبر .. وإن كان كثير من المدرّسين يعجزون .!

 

أمّا قيادة جماعة من البشر ، مختلفة المواهب والمنازع ، والاتّجاهات والاهتمامات فهي بحاجة إلى شخصيّة غير عاديّة .. شخصيّة موهوبة ومدرّبة ، وذات خبرة عالية ، تقدر على توفير مطالب التربية لهذه الجماعة ، وهي شيء غير الطفل الواحد ، وغير المجموعة من الأطفال ..

 

 

وأمّا قيادة أمّة فأمر أخطر بكثير من قيادة جماعة ، وأحوج بكثير إلى مزيد من الخصال الستّ المطلوبة .! بل إلى مواهب أخرى تعزّز هذه الخصال ، وترفع مستواها .. فما بالك بقيادة البشريّة .؟! وهنا تتجلّى عظمة محمّد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه ..

 

 

لقد كان محمّد صلى الله عليه وسلم معدّاً لقيادة البشريّة .. وبهذه التهيئة الربّانيّة لقيادة البشريّة كان الرسول صلى الله عليه وسلم يرعى أصحابه رضي الله عنهم في كلّ موقف ومناسبة ، ويوجّههم ويربّيهم على منهج الإسلام وهديه .. كان يرعى أصحابه ومن حوله ، ويقودهم ويربّيهم بكلّ وصف : يرعاهم أباً وجدّاً ، ويرعاهم زوجاً ، ويرعاهم معلّماً ، ويرعاهم قائداً .. ٍويضع لهم الأسس التربويّة ، التي تؤهّلهم لقيادة الأمم .. وهؤلاء الذين تلقّوا منه مباشرة ، وتربّوا على رعايته وعينه صلى الله عليه وسلم ، هم الذين كتبوا تاريخ هذه الأمّة .. وهم الذين وضعوا أسس حضارتها ، وهم الذين قادوا الأمم بدين الله ، وأقاموا في الأرض منهج الحقّ والعدل .. "  ([3])  .

--------------------------------------------------------------------------------

([1]) ـ انظر كتاب : " شخصيّة المسلم كما يصوغها الإسلام في الكتاب والسنّة " د. محمّد علي الهاشميّ ص/334/ بتصرّف يسير واختصار .
([2]) ـ وهي أن تكون شخصيّة المربّي أكبر ، وأن يكون عنده ما يقدّمه ويعطيه ، وأن يكون حسن الإعطاء ، مهتمّاً بالآخرين ، متابعاً للمتلقّي باستمرار ، وأن يكون قادراً على القيادة .
([3]) ـ انظر " منهج التربية الإسلاميّة " للأستاذ محمّد قطب ص /279/ فما بعد باختصار وتصرّف