أبو حنيفة .. الرحيق
5 جمادى الثانية 1433
د. خالد رُوشه

لسنا ههنا نتتبع سيرته الزاهرة , ولا نتتبع حكايات فقهه العامرة , لكننا نقتصر على جوانب إيمانية ونفسية وأخلاقية من تكوينه الإيماني النفسي والخلقي الرائع , نجعلها أمام الناس وبين أيديهم , يقتدون بها , ويضربون بها الأمثال للناس في هذا العصر وما يليه , يشتمون منها رائحة العطر الفائح , ويفيض عليهم منها أثر الرحيق  .

 

 

إننا أمام رجل من التابعين الكرام , ومن القرون الثلاثة الفاضلة , لم يكن فقيرا ليقال دعاه فقره إلى الزهد , ولم يكن دميما ليقال دعته دمامته إلى الخلوة , ولم يكن قليل العلم ليقال تواضع لضعف بضاعته , بل كان ميسرا , حسن الصورة , بليغ الكلام , عالما فقيها , لكنه كان مهيبا وقورا , يقول عنه شريك : كان أبو حنيفة طويل الصمت كثير العقل , ويقول عنه ابنه حماد : كان أبي جميلا تعلوه سمرة حسن الهيئة كثير التعطر هيوبا لا يتكلم إلا جوابا ولا يخوض رحمه الله فيما لا يعنيه , ويقول عنه عبد الله بن المبارك ما رأيت رجلا أوقر في مجلسه ولا أحسن سمتا وحلما من أبي حنيفة , وقال يزيد بن هارون : ما رأيت أحدا أحلم من أبي حنيفة .

 

 

لقد تربى أبو حنيفة بين أيدي العلماء الكبار , فأخذ من فضلهم وامتص من رحيقهم , وتلون بألوانهم الزاهرة , فعمن أحكي من شيوخه ؟ فأكبرهم التابعي حماد بن ابي سليمان , ومنهم عطاء بن أبي رباح والشعبي وعبد الرحمن بن هرمز الأعرج وعمرو بن دينار ونافع مولى ابن عمر وقتادة وعون بن عبد الله بن عتبة والقاسم بن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود وآخرين كثيرين كلهم أهل فضل كبير وعلم غزير تركوا بصماتهم على عقله وسلوكه ونفسيته فخرجت نفسية مستقيمة وعقلا حكيما وسلوكا قويما , حتى قال عنه الإمام الذهبي: وأما الفقه والتدقيق في الرأي وغوامضه فإليه المنتهى والناس عليه عيال في ذلك , وانظر إلى أبي حنيفة إذ يقول عرفانا ووفاء لشيخه : ما صليت صلاة مُذ مات حماد إلا استغفرت له مع والدي، وإني لأستغفر لمن تعلمت منه علماً، أو علمته علما.

 

 

ثم استطاع أن يترك لنا جيلا من تلاميذه , علماء ولاشك كبارا , وأفذاذ لايشق لهم غبار ,  فمنهم : زفر بن الهذيل وداود الطائي والقاضي أبو يوسف ومحمد بن الحسن وأسد بن عمرو والحسن بن زياد وأبو مطيع البلخي وغيرهم من أهل العلم والفضل الذين أناروا للأمة سبيلها وبينوا طريقها وورثوا ميراث النبوة , حتى إن العالم الجهبذ الكبيرعبد الله بن المبارك ليقول : لولا أن الله أعانني بأبي حنيفة وسفيان لكنت كسائر الناس , فابو حنيفة أفقه الناس وما رأيت في الفقه مثله , وحتى قال عنه سفيان الثوري : كان أبو حنيفة أفقه أهل الارض في زمانه , وقال مكي بن إبراهيم : كان أعلم أهل الأرض .

 

 

لقد كان الرجل مبدعا في عقله , وفي قدرته على البيان والإقناع والحجة , سبق الناس من حوله , ونبه ونبغ حتى ضربت به الأمثلة في الذكاء والتميز , واقرأ قول الإمام مالك عنه إذ يقول عنه : رأيت رجلا لو كلمك في هذه السارية أن يجعلها ذهبا لقام بحجته .
ويروى أن المنصور دعاه إلى القضاء فامتنع فقال أترغب عما نحن فيه فقال لا أصلح قال كذبت قال فقد حكم أمير المؤمنين علي أني لا أصلح فإن كنت كاذبا فلا أصلح وإن كنت صادقا فقد أخبرتكم أني لا أصلح فحبسه

 

 

 وقد سئل عنه العلماء فأجابوا بما يدل على ذلك بوضوح فقد سئل ابن المبارك مالك أفقه أو أبو حنيفة قال أبو حنيفة , وقال الشافعي : الناس في الفقه عيال على أبي حنيفة .

 

تلك النفسية التي تشبعت علما , لم تأخذ العلم للدنيا ولم تتعلمه للشهرة ولا للكسب , بل أرادت به وجه الله والدار الآخرة , فكساها علمها ورعا وخشية وعبودية , يقول أبو عاصم النبيل كان أبو حنيفة يسمى الوتد لكثرة صلاته , ويقول عنه تلميذه ابو يوسف : بينما أنا أمشي مع أبي حنيفة إذ سمعت رجلا يقول لآخر هذا أبو حنيفة لا ينام الليل فقال أبو حنفية والله لا يتحدث عني بما لم أفعل فكان يحيى الليل صلاة وتضرعا ودعاء
إن الليل عنده لم يكن يعني نهاية العمل , بل بداية الاجتهاد , روى القاسم بن معن أن أبا حنيفة قام ليلة يردد قوله تعالى " بل الساعة موعدهم والساعة أدهى وأمر " ويبكي ويتضرع حتى طلع الفجر.

 

إنها شخصية رقيقة , تعرف حق ربها , وتخشى من عذابه , وتشفق منه , يروى أن رجلا قال له : اتق الله , فانتفض واصفر وأطرق وقال جزاك الله خيرا ما أحوج الناس كل وقت إلى من يقول لهم مثل هذا .

 

تلك النفسية الكريمة استطاعت أن تسيطر على سلوكها سيطرة تامة , فأخرجت لنا من الأخلاقيات ما نتعجب منه , وما يصلح قدوة للناس , فعن سهل بن مزاحم قال سمعت أبا حنيفة يقول: "فبشر عباد الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه" ثم قال: اللهم من ضاق بنا صدره فإن قلوبنا قد اتسعت له.

 

وكان يقول عن اختياراته الفقهية : قولنا هذا رأي وهو أحسن ما قدرنا عليه فمن جاءنا بأحسن من قولنا فهو أولى بالصواب منا.

 

أما عن ورعه واحتياطه لدينه فالأخبار كثيرة , ويكفينا منها ماقاله الإمام الكبير عبد الله بن المبارك إذ يقول : ما رأيت أحداً أورع من أبي حنيفة وقد جرب بالسياط والأموال , وقد ضرب غير مرة على أن يلي القضاء فلم يجب , وكان الإمام أحمد إذا ذكر ذلك ترحم عليه

 

وعن ابن المبارك أيضا : قلت لسفيان الثوري، يا أبا عبد الله، ما أبعد أبا حنيفة من الغيبة، وما سمعته يغتاب عدوا له قط , قال: هو والله أعقل من أن يسلط على حسناته ما يذهب بها.

 

وورد عنه أنه كان يبعث بالبضائع إلى بغداد، يشتري بها الأمتعة، ويحملها إلى الكوفة، ويجمع الأرباح عنده من سنة إلى سنة، فيشتري بها حوائج الأشياخ المحدثين وأقواتهم، وكسوتهم، وجميع حوائجهم، ثم يدفع باقي الدنانير من الأرباح إليهم، فيقول: أنفقوا في حوائجكم، ولا تحمدوا إلا الله؛ فإني ما أعطيتكم من مالي شيئا، ولكن من فضل الله عليَّ فيكم، وهذه أرباح بضاعتكم؛ فإنه هو والله مما يجريه الله لكم على يدي فما في رزق الله حول لغيره.

 

إنها النفسية المتوازنة التي تشبعت علما فأثر علمها في سلوكها ففاضت أخلاقا نموذجية مثالية رائعة , ملأ الدنيا علما توارثته الأجيال , فاستمر ثوابه وبقي أثره , حتى كتب الله له أن يكون لقاؤه بينما هو يبتلى ويمتحن فيثبت في البلاء والامتحان , فتوفي الراحل الكبير بعدما رفض القضاء فضرب وسجن , ورحل بينما هو في سجنه ككثير من الصالحين