التربيةُ أوّلاً .!
21 جمادى الثانية 1433
د. عبد المجيد البيانوني

إنّنا لا نبعد في القول إذا قلنا : إنّ التربية هي التحدّي الأكبر الذي يواجه أمّتنا في هذا الزمن ، إذ تستبق الأمم القويّة إلى فرض سيطرتها ، وبسط هيمنتها ، وإحكام قبضتها على من استطاعت من أمم الأرض بأدوات كثيرة ، وأساليب شتّى ، ومن أهمّها محاولة تفكيك القيم ، التي تقوم عليها حياة الأمّة ، وتنتظم شئونها ، وتؤلّف بين قلوب أبنائها ، وترسم صورة هويّتها ، وتورّث القيم والمبادئ من الآباء إلى الأبناء ، فإذا تحقّق للأمم القويّة ما تريد ذابت الأمم المستضعفة واضمحلّت ، وامّحت حضارتها وتلاشت ..

 

وإذا كان بعض الذين يحملون همّ الدعوة ، ويعنون بشئونها يقلّلون من شأن التربية ، أو لا يولونها من الناحية العمليّة حقّها ، فإلى هؤلاء نقول : التربية أوّلاً .. ثمّ التربية أوّلاً .. لاعتبارات عديدة ، لعلّ أهمّها :

 

1 ـ أنّ الدعوة والتربية في نظرنا وفهمنا خطّان متكاملان مبدءاً وغايةً ، وسيلة وهدفاً ، إنّهما أوثق اتّصالاً من أن يقال عنهما : إنّهما وجهان لعملة واحدة ، ولكنّ التربية هي التأصيل العمليّ لمفاهيم الدعوة ، والتحقّق بمبادئها ، وبدون ذلك تكون الدعوة فكرة مجرّدة ، لا تجد لها موقع قدم في الحياة ..

 

2 ـ ولأنَّ التربيةَ أصبحت همّاً عامّاً ، لا يستثنى منه أحد في المجتمع بحكّامه ومَحكوميه ، ورجاله ونسائه ، وكباره وصغاره ، ومَن يحملون الدعوة وهمومها ، أو من يولّون وجوههم شطر مناهج أخرى ، متغرّبة عن هوّيّة الأمّة وأصالتها ..

 

وواقع الصراع الفكريّ يشهد أنّ كلّ ذي فكرٍ واتّجاه ، يريد للأمّة أن تحذو حذوه ، وتنحُوَ نحوه .. ولابدّ لدعاة الإسلام أن يكون لهم في هذا الميدان حضورهم وتأثيرهم ، ومبادرتهم وسبقهم .. وعلى ذلك فإنّ التربية الإسلاميّة بمبادئها وأهدافها يمكن أن تكون مدخلاً ممهّداً للدعوة ، يرسّخ أصولها ، ويقيم قواعدها ..

 

3 ـ ولأنّ فينا قصوراً وتقصيراً ، نريد أن نتداركه ، في ساحة الفكر الإسلاميّ ، والفكر الدعويّ على وجه الخصوص ، في الاهتمام بالتربية : تأصيلاً وتمحيصاً ، وتبويباً وتصنيفاً ، ونقداً وتقويماً ، ورصداً لما يملأ ساحة الفكر العالميّ ، ويجدُّ عليها .. وقد انتهز هذا الفراغ من لا منهج له ، ولا رؤية شَرعيّة تحكمه ، ليلبّي الطلب الشديد على الاختصاص في التربية ، والحاجة إلى كتبها ، فملأ المراكز العلميّة بالمختصّين بالتربية ، ولكن بفكر الغرب ، ومناهج الغرب .. وأغرق السوق بالكتب المترجمة عن الغرب ، بلا تقويم ولا تمحيص .. ووضع الآباء والمربّين أمام خليط من الفكر التربويّ ، الذي لا يخلو من خير ، ولكنّ فيه من الاضطراب والتعارض مع مبادئ ديننا وآدابه ما ينذر بأسوأ العواقب على أطفالنا ، ومستقبل مجْتمعاتنا ..

 

4 ـ ولأنّ التربية هي البرنامج العمليّ لفكر الدعوة وتوجّهاتها وأهدافهَا ، وما لم تتوجّه الدعوة أيّ دعوة إلى بناء الأمّة وتربيتها وفق الفكر الذي تؤمن به ، وتدعو إليه ، فإنّ عملها لا يتعدّى الكلام النظريّ ، الذي لا يقيم له الواقع أيّ وزنٍ أو اعتبار ..

 

5 ـ ولأنّ الإسلامَ دين علم وعمل ، ولا ثمرة للعلم إن تجرّد عن العمل وفارقه ، وإذا كانت الدعوة أوثقَ اتّصالاً بالعلم ، فإنّ التربية أوثقُ اتّصالاً بالعمل ، ولا أظنّ أحداً يماري أن تفريط أمّتنا بالعمل وتقصيرَها فيه ، أضعافٌ مضاعفة عن تفريطها بالعلم ، وتخلّفها فيه على كلّ مستوىً ، كما أنّ تكاليف العمل وأعباءه أشقّ من تكاليفِ العلمِ ومعاناته .. فكان لابدّ من تعميق الجهود لتوضيح معالم خطط العمل ، ورسم أبعاده ومجالاته ..

وأحسبُ أنّ في هذه النقاط الوجيزة غُنيةً وبلاغاً عنِ استقصاء مسهب ، وفي الإحساس العميق قبل ذلك داخل كلّ منّا بضرورة التربية ما يجعل هذه النقاط وأمثالها من نافلة القول ، ولكنّها تبقى عند من لا يعيشون الضرورة ضرورة من ضروراته ..