ولدي ..لا أخاف الفراق .. إن الله سيرعاك
9 رجب 1433
أميمة الجابر

في زماننا هذا أصبح الكثير يتصارع مهرولا هنا وهناك يريد الحياة الكريمة له ولأبنائه وربما لا يخاف كثير من الناس على نفسه المصائب بقدر خوفه على ولده, بل كل الذي يشغل باله هو أولاده من بعده ,  فيظل يضع لهم الكثير من التخيلات والتصورات وما يمكن أن يحدث لهم من مهالك بعد فراقهم.

 فلا شك أننا كلنا نحب ابناءنا ولا داع أن نضع أنفسنا أمام تلك التصورات لكن لنبحث سويا ونلتمس طرق الصالحين السابقين ونرى ماذا تركوا لأبنائهم لعلنا نقتبس من نورهم ونتأسى بهم فقد مجدهم الله سبحانه وتعالى وضرب لنا بهم مثلا في القرآن الكريم لنتعلم منه كيف نواصل رعاية ابنائنا من بعدنا .

 يقول الله تعالى فيهم :" وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة وكان تحته كنز لهما وكان أبوهما صالحا فأراد ربك أن يبلغا أشدهما ويستخرجا كنزهما رحمة من ربك ... " الكهف 82
فهذا " دليل من هذه الآية من سورة الكهف من كلمة " وكان أبوهما صالحا " على أن الرجل الصالح يحفظ في ذريته وتشمل بركة عبادته لهم في الدنيا والآخرة بشفاعته فيهم ورفع درجاتهم إلى أعلى درجة في الجنة لتقر عينه بهم "  تفسير ابن كثير

هكذا إذن علمنا أول خطوة في طريق الاطمئنان على ابنائنا بعد مماتنا وهي خطوة إصلاح النفس , وهي التي نحب أن نؤكد عليها ههنا ابتداء :

فإن إصلاح النفس يبدأ بإصلاح القلب كما فهمنا من حديث نبينا الكريم صلى الله عليه وسلم حيث قال :" ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله , ألا وهي القلب " رواه البخاري ومسلم , ومن صلاح القلب يهذب اللسان عن الكلام الخاطئ , ويهذب النظر عن غير الحلال , وتهذب الآذان عن سماع الباطل بأنواعه , وتذهب جميع الأعضاء مستسلمة لأمر القائد الذي يقودها إلى أمر هدايتها , فقائد الجوارح هو القلب فلنبدأ به .

كما علينا أن نمتثل لأوامر الخالق فننتهي عما نهى ونسير بخطواتنا وندق كل أبواب الخير ولنشهد أن الله هو الواحد الأحد الذي وجبت له العبودية وحده لا شريك له وأن محمدا رسول الله خاتم الأنبياء , فلنأخذ منه ما أتى به ولننته عما انتهى عنه .

وكلنا أيضا يعرف أن الإيمان يزيد وينقص وتشتد أحيانا العزيمة على الإصلاح وترتخي , وأحيانا يميل القلب لهواه وفي آن آخر يثبت على الحق لذا علينا أن نغذي إيماننا ونقويه بكثرة الذكر والتسبيح والتهليل له سبحانه ولنجدد عهدنا مع القران الكريم فنكثر من قراءته وتدبره وعلينا أن نلتمس لأنفسنا ركعات في جوف الليل نتلذذ بمناجاة الإله فنسرد له شكوانا وتقصيرنا ونلتمس منه العفو والمغفرة , فالإيمان الصحيح يزيد من صلاحنا .

أما الأمر الآخر إننا لا ينبغي علينا إصلاح انفسنا تاركين أبناءنا فعلينا الاهتمام بصلاح عقيدتهم وترسيخ الإيمان والخوف والخشية في قلوبهم من الله سبحانه وتعالى وبذلك نتركهم ولا نخاف عليهم الفراق , واثقين أن الله تعالي هو الملجأ و هو نعم المولي ونعم النصير لصغارنا .
وفي القرآن الكريم قوله تعالى :" إن وليي الله الذي نزل الكتاب وهو يتولى الصالحين " قال الواحدي أن عمر بن عبد العزيز ما كان يدخر لأولاده شيئا ، فقيل له فيه فقال : ولدي إما أن يكون من الصالحين أو من المجرمين ، فإن كان من الصالحين فوليه الله ، ومن كان له وليا فلا حاجة له إلى مالي ، وإن كان من المجرمين فقد قال تعالى " : فلن أكون ظهيرا للمجرمين "   فمن رده الله لم أشتغل بإصلاح مهماته .
وكان محمد بن المنكدر يقول لولده: والله يا بني إني لأزيد في صلاتي ابتغاء صلاحك.
وهذا والد الإمام البخاري رحمهما الله تعالى، وكان تاجرا غنيا، لما ترجم له البخاري، الولد يترجم لأبيه ترجمة مختصرة فيقول: (رأى حماد بن زيد، وصافح ابن المبارك بكلتا يديه) وأما الأب أبو البخاري رحمه الله لما حضرته الوفاة، دعا ابنه وقال له: (يا بني! لقد تركت لك ألف ألف درهم، ما أعلم درهماً فيه شبهة).

وبعد ترسيخ الايمان داخل نفوس أبناءنا ,فلابد أن نربيهم علي حب الأعمال الصالحة و المسارعة في الخيرات فبذلك نضمن لهم الحياة الطيبة حيث وعدنا بذلك الله سبحانه في كتابه الكريم حيث قال  (  من عمل صالحاً من ذكر أو أنثي و هو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة و لنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون )  النحل  97
فذلك وعد الله تعالي لمن جمع الايمان و العمل الصالح بأن له الحياة الطيبة في الدنيا و الثواب و الجزاء الحسن في الدار الآخرة .

كما ينبغي علينا أن نعود أبناءنا تدريجياً علي تحمل أنواعا من المسؤولية مما يزيد ثقتهم بأنفسهم , تلك الثقة التي تدفعهم إلي مواجهة كل الصعاب التي تواجههم , فتجعل دور الابن يعين دور الأب ويخلفه دون خوف أو إزعاج .

أيضاً كي لا نخاف علي أبناءنا علينا أن نعودهم علي القناعة و عدم النظر لما عند الغير , فهذه الصفة تدفعهم للزهد فيما في يد الغير مما يجعله محبوبا منهم ففي حديث النبي صلى الله عليه وسلم " ازهد فيما عند الناس يحبك الناس" فيسير بعد فراق الأبوان محبوبا ممن حوله ينال الترحيب عند لقائهم مما يهون عليه وحشه فراق الأبوين .

 

كما علينا أن نربي أولادنا على استعمال ما أرشد إليه النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال " أنظروا إلى ما هو أسفل منكم ولا تنظروا إلى ما هو فوقكم فإنه أجدر ألا تزدروا نعمة الله عليهم " رواه البخاري ومسلم

فعندما يجد الابن أن امامه كثيرا من البسطاء والفقراء فيجد نفسه في نعمة وفضل فيشعر من داخله بالرضا مما يزيل قلقه وهمه وغمه ويزيد سروره وشعوره بنعم الله التي فاق فيها غيره .

و مع كل ذلك فقد نبهنا النبي صلي الله عليه و سلم – إن قدرنا - أن نحاول ألا نترك أبناءنا فقراء عالة علي الناس , بل نترك لهم بعض المال الذي قد يساعدهم فيكون لهم كنواة يبدأ بها الأبناء السير في هذه الحياة المليئة بالصعاب ,( و قد ذهب النبي صلي الله عليه و سلم ليعود أحد الصحابة و هو مريض ,فسأله الصحابي  فقال يا رسول الله إني لي مالاً كثيراً و ليس يرثني إلا ابنتي فأتصدق بثلثي مالي قال صلي الله عليه و سلم لا , قال  فالشطر , قال النبى صلي الله عليه و سلم لا , قلت فالثلث قال النبي صلي الله عليه و سلم الثلث و الثلث كثير إنك إن تترك ورثتك أغنياء خير من أن تتركهم عالة يتكففون الناس ) مسند احمد

واخيرا فعلينا أن نعلم ابناءنا ذلك الدعاء ونربيهم عليه منذ الصغر فليحفظه الابن ويردده فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو به " اللهم أصلح لي ديني الذي هو عصمة أمري , وأصلح لي دنياي التي فيها معاشي , وأصلح لي آخرتي التي إليها معادي , واجعل الحياة زيادة لي في كل خير, واجعل الموت راحة لي من كل شر " رواه مسلم

فالله قريب مجيب الدعاء , فلنستودع ابناءنا عنده سبحانه كل يوم فإنه لا يضيع ودائعه .
 فليكن راسخا في قلبك ياولدي أننا مهما باعدت بيننا الأيام .." إن الله سيرعـــاك "