صور مشرقة من ثورة الشام (1) أبو عبيدة الحمصي
14 شعبان 1433
عبد الرحمن الشامي

الحمد لله والصلاة والسلام على من لا نبي بعده ،  وبعد :
فهذه صور مشرقة من بطولات ثورة الشام المباركة جمعت خيوطها ومشاهدها مما سمعته أذناي , ورأته عيناي , وبعضها مما كتب على صفحات الشبكة العنكبوتية , وكنت في هذا ناقلاً ومدوناً فحسب !. وتدويني لهذه الصور البطولية ناتج عن شعور بالواجب تجاه الشعب السوري البطل الذي عانى من الظلم والقهر على مدار أربعين سنة خلت .

 

وقد كتبت هذه القصص بذوب قلب ودموع عين , كيف لا وأنا واحد من أولئك السوريين الذين عانوا ولا يزالون يعانون من ظلم ذلك النظام المجرم. وقديماً قيل :
 " ليست النائحة المستأجرة كالنائحة الثكلى ."

 

وكان الهدف الرئيس من كتابتي لها , أن يتعرف الناس على هذه البطولات , وتكون نبراساً لهم في مقارعة الظلم والطغيان حيثما حلَّ وأينما كان , وذلك استجابة لقوله تعالى : ( ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار ) .

 

وهذه البطولات التي كتبتها , ليست من بطولات الصحابة , ولا هي من بطولات التابعين , إنما هي بطولات من عصرنا الراهن , أعادت للذاكرة بطولات الأجداد الخالدة , وهي بطولات لا تقل شأناً عن تلك البطولات , وما ذكرتها إلا للتأسي بها , ورحم الله من قال :
فتشبهوا إن لم تكونوا مثلهم             إن التشبه بالكرام فلاح

 

ولا تظنن – أخي القارئ الكريم – أن بطولات ثوار الشام قد اقتصرت على هذا الحد أو انتهت عند هذه الصور المشرقة , لا وألف لا , فما كتبته لك هو غيض من فيض من بطولات هذا الشعب العظيم المبارك , وما خفي عنا من بطولاته أضعاف أضعاف ما علمناه , ولسوف أوافيك وأوافي أهلنا في الشام – ما استطعت – بكل جديد من هذه البطولات النادرة عبر سلسلة غير متناهية , تمتد إلى ما بعد انتصار الثورة إن شاء الله .

 

ختاماً: آمل أن أكون قد وفقت في نقل هذه الصور البطولية إلى القراء الكرام . داعياً الله عزَّ وجلَّ أن يجعلها في صحيفتي جهاداً في سبيله يوم لا ينفع مال ولا بنون , ولعمري فإن الجهاد بالقلم لا يقل شأناً عن الجهاد بالسلاح .

 

(1 )  أبو عبيدة الحمصي

 

إنها الساعة السادسة صباحاً حسب التوقيت المحلي لمدينة حمص , الشمس لازالت تنشر أشعتها الذهبية على هذه المدينة الجريحة , أصوات الرصاص متقطعة تسمع من هنا وهناك .... الشوارع تكاد تكون خالية من المارة , لا شيء يبعث على الارتياح فرائحة الموت تزكم الأنوف ، هناك كوة واحدة ينبعث منها الأمل في نفوس الناس ، إنها كوة الإيمان بالله العزيز الحميد ، فهو وحده القادر على حسم الأمور ، ونصر عباده المؤمنين .... العالم كله يتفرج ... وأهل حمص يستغيثون ولا مجيب ، إذاً ليس لهم إلا الله , وها هي ذي حناجرهم تدوي بصوت واحد : مالنا غيرك يا الله – عجِّل نصرك ياالله ...

 

هكذا كانوا يرددون في مظاهراتهم وأهازيجهم الشعبية بألسنتهم ، ولكن أعماق قلوبهم تصدق ما تنطق به الألسنة .
لم يعد شبح الموت يخيف أحداً منهم ، لقد استوت عندهم الحياة والموت ، لقد أصبحوا كالجسد الواحد أمام هذا الطاغوت ، ابتعد عنهم الأنا .. وها هم يتقاسمون رغيف الخبز في مشاهد عجيبة عزَّ نظيرها ويضربون أروع الأمثال في الإيثار ، وما قصة أبي عبيدة عنا ببعيدة .... لقد اعتقل الأمن السوري ابنه عبيدة الذي رباه كما يقول المثل السوري (كل شبر بنذر ) , وكان له معه كل يوم قصة وحديث وحنين ، تألم وقتها كثيراً ، تمنَّى وقتها لو مات عبيدة ولم تقبض عليه قوات أمن هذا النظام المجرم, ذلك لأنه يعلم ما معنى الاعتقال في سجون هذا النظام ، بكت والدته وإخوته , كانوا كل يوم يرفعون أكفهم له بالدعاء ....

لكن قدر الله كان هو النافذ ، لقد قام هذا النظام بتصفيته , شأنه في ذلك شأن كل المعارضين الذين لهم بصمات واضحة في مسيرة الثورة السورية ، وسرعان ما ألقي به مع عدد من رفاقه في ثلاجة الموتى في المشفى الوطني بحمص ، كان أبو عبيدة وقتها ينتظر ارتفاع الشمس قدر رمح ليصلي الضحى يوم قُرع باب داره ، انتابه شعور من الفرح في البداية , قال في نفسه : لعله عبيدة قد أُفرج عنه ، لكن شعوراً آخر انقبضت له نفسه , وعبس وجهه سرعان ما تسلل إلى أعماقه ، لا شك أنهم أزلام النظام ، تماسك قليلاً ثم صاح :
- من الطارق .
- افتح .... افتح .

 

علم أنهم رجال الأمن ، لكن ماذا يعمل ؟ إنه إذا لم يفتح بسرعة فقد يفتح الباب بالرصاص .
 فتح الباب قائلاً:
- خير إن شاء الله .
- أنت أبو عبيدة ؟
- نعم , أنا هو .
- ابنك عبيدة في المشفى الوطني ، اذهب فخذه وواره التراب دون أن تُعلم أحداً ، وإياك إياك أن تقيم له مأتماً, أو تُخرج له جنازة يشارك فيها الكثيرون .
تركوه وهم يقهقهون ، فأغلق الباب وأخذ يتمتم : إنا لله وإنا إليه راجعون .... اللهم أجرني في مصيبتي .

 

ذرف دموعاً حرّى , وذرفت أم عبيدة وإخوانه دموعاً أشد حرارة !... قال في نفسه : لن يحلموا بتنفيذ ما طلبوه مني ... سأجعل له جنازة يشارك فيها جميع أحرار حمص .
انطلق مسرعاً بسيارته إلى المشفى الوطني ، سأل عن ثلاجة الموتى فَذُل عليها ، وجد لفيفاً من الناس هناك كل يبحث عن فقيده ، ليس هناك ما يدل على أن الفقيد هو ابن فلان أو فلان ... قال في نفسه : فوضى النظام وصلت إلى هذا الحد . إنهم يقولون لك  : تعرَّفْ على ميتك وخذه ، وقف في زاوية مهملة من زوايا ذلك المكان ينتظر ....

 

لقد أنساه هول المنظر شيئاً من أساه .. كان يقول في نفسه : كلنا في الهمِّ شرق ! ، ابتعدت به الذاكرة قليلاً .. أخذ يعيد شريط الذكريات عندما كان عبيدة صغيراً .. كم من ضحكة طفولية سمعها منه ، كم من رحلة رافقه فيها , كم من صلاة كان إلي جانبه ... كم ... كم ولم يقطع عليه هذا الشريط سوى صوت يقول له : لم يبق غيرُك ... هيا تعرَّف على فقيدك وخذه عنا ... تقدم بخطاً وئيدة إلى الثلاجة, أخذ ينظر بين القتلى علّه يجد عبيدة ، لكن عينه وقعت على ما لم يكن بالحسبان .. تأمل المشهد ثانية وثالثة ، لقد دُهش مما رآه حتى إنه كاد لا يصدق نفسه ، كان عامل الثلاجة يصيح فيه ، أما وجدت فقيدك ؟ معقول أنك لا تعرف ابنك ؟ ، لقد رأى شابأً في الثلاجة جفنه يطرف أكثر من مرة ، فعلم أنه لا يزال حياً ،ونظر في الأدراج الأخرى فرأى ابنه وقد ظهرت عليه آثار التعذيب ، وقف حائراً لا يدري ماذا يقول ! وماذا يعمل ! وعامل الثلاجة يقول له : أما وجدت فقيدك ؟ أمعقول لا تعرف ابنك ؟ قال له : أمهلني بعض الشيْء حتى أتعرف عليه جيداً ، ألقى على ابنه نظرة الوداع ، ثم قال : هذا ابني وأشار إلى من كانت عينه تطرف ، حمله في السيارة التي كانت معه  وعاد به إلى البيت ، حاول تدفئته بعض الشيْء ، فأخذ يتحرك شيئاً فشيئاً , ثم أسرع به إلى أحد أطباء الثورة, حيث قام على علاجه فترة من الزمن ، وفي كل يوم كان الشاب يأخذ بالتحسن إلى أن شفاه الله .

 

فرح أبوعبيدة بشفائه فرحاً لا يوصف ...انتابه شعور داخلي بأن عبيدة لا يزال حياً ، ثم ما برح أن نسي مصابه الجلل عندما علم أن هذا الشاب قد استبدل باسمه اسم عبيدة ، وجاء إليه وهو يناديه : أبي !!