أول شهيد في تلبيسة
24 ذو القعدة 1433
عبد الرحمن الشامي

إنه أبو المعتصم , هكذا كان أهل بلدته يكنونه ، لم يؤت شهيدنا حظاً كبيرا من العلم ، ولا بسطة كثيرة في المال ، مات والده وهو لا يزال في المرحلة المتوسطة ، فاضطره ذلك إلى ترك المدرسة ، والبحث عن عمل هنا وهناك ليقوم بأعباء الأسرة . فوالده ترك له أماً وعدداً من الإخوة والأخوات هو أكبرهم . عمل مدة من الزمن في بلدته في شتى المهن ، لكن دخله ما كان ليسد الرمق ، فكر طويلاً إلى متى سيبقى على هذه الحال ,ومتى سيتزوج ويبني أسرة  كما هو حال الشباب الذين في مثل سنه ,فأخذ يتطلع إلى العمل في بلدان الخليج ليجني ربحاً أوفر ، وكان له ذلك , فعندما طلب منه أحد مالكي السيارات الكبيرة أن يعمل سائقاً لسيارته في السعودية. وافق مباشرة وبدأ العمل ، وما هي إلا سنوات حتى أصبح ميسور الحال ، وكأي شاب أخذ يفكر بالزواج ، فطلب من أمه أن تبحث له عن ابنة الحلال ، سعدت الأم برؤية ابنها وهو يتطلع إلى بناء أسرة ، وسرعان ما وجدت له شريكة العمر.

 

وبعد شهر العسل عاد أبو المعتصم إلى عمله الشاق , لكنه هذه المرة داخله شعور غريب , فقد كان في المرات السابقة لا يرجع من سفره إلى أمه وإخوته إلا بعد شهرين  أو ثلاثة , أما الآن فلا يدري متى سيرجع , كيف لا و قد زادت التكاليف وكثرت الأعباء ... أبعد عنه هذا الهاجس قول الشاعرالذي حفظه من شيخ المسجد في إحدى خطبه

 

دع المقادير تجري في أعنتها      ولا تبيتن إلا خالي البال
ما بين طرفة عين وانتباهتها     يغير الله من حال إلى حال

 

وينخرط أبو المعتصم من جديد في عمله وتمضي أشهر سبعة , وفي كل يوم يمر خيال زوجه وأمه وإخوته أمام عينيه .
 وذات يوم تعطَّلت سيارته فجأة فما كان منه إلا أن أخذ بها إلى ورشة الإصلاح , ورجع إلى بيته المستأجر ليجلس وحيداً , وهناك كان أشد تذكراً لهم واشتياقاً إليهم, ولم يقطع عليه هذا التذكر إلا سماعه جرس الهاتف وهو يدق قام بسرعة ...أخذ سماعة الهاتف :
- نعم , من معي ؟
-السلام عليكم , أنا زوجتك أم المعتصم .
-أهلاً ....أهلاً
-كيف حالك ؟ وكيف حال أمي وإخوتي ؟
-بخير .
-قولي هل هناك من جديد لديكم ؟
- لا لا ... ولكن أردت ان أعلمك بأني حامل وأن عليك المجيء قبل الولادة بعشرة أيام على الأقل .
-الحمد لله ..سأصل قبل ذلك..إن شاء الله .

 

انتشى بهذا الخبر , تُرى ماذا سيُسميه ؟ ... أخذ يتخيل ابنه الصغير بين يديه , وهو يقوم بمداعبته , ثم تخيله أيضاً وهو يبتسم له , واستشعر وكأن أذنيه تسمع قهقهته وضحكاته الطفولية البريئة فيدخل السرور إلى قلبه مرة ثانية.

 

قال في نفسه : إذاً تحدد موعد النزول , سأنزل قبل شهر لاستقبال ابني الصغير القادم من عالم الغيب, لم يبق أمامي إلا شهر , أسألك يارب أن تعينني عليه وأن تعيدني إلى أهلي وإخوتي وأمي سالماً غانماً , بدأ يستشعر طول الأيام المتبقية , وتذكر بيتاً سمعه من معلم اللغة العربية للشاعر أبي فراس الحمداني:
تمر بي الساعات وهي قصيرة     وفي كل دهر لا يسرك طولُ

 

أخذ يردد هذا البيت عندما يخلو بنفسه , انهمك مرة أخرى في زحمة العمل , نسي وعده لزوجه , بالرجوع قبل عشرة أيام من وضعها لجنينها , لم ينتبه لهذا إلا باتصال هاتفي آخر من الزوجة , وهي تقول اقترب الموعد أين أنت ....؟

 

 حزم حقائبه وهداياه هذه المرة , وركب سيارته وقفل عائداً إلى تلبيسة , وما هي إلا أيام قليلة حتى كان في منزله , وفرحت به أمه وزوجه وإخوته أيما فرح ,اطمأن من زوجه على الجنين .
كان اليوم التالي لوصوله , يوم جمعة , استيقظ لصلاة الفجر كعادته , قرأ أذكار الصباح ثم سورة الكهف , رجع إلى بيته , تناول طعام الفطور , جلس مع زوجه تجاذبا أطراف الحديث عن المولود القادم , عن اسمه ولباسه وعقيقته وغير ذلك ....

 

أخذ بعدها غفوة من النوم ... ولم يستيقظ إلا والمؤذن ينادي لصلاة الجمعة , توضأ وانطلق إلى المسجد , بعد الصلاة رأى الناس يتجمعون سأل عن السبب , أُجيب بأنها مظاهرة ضد النظام , وتذكر معاناته على الحدود من قبل رجال الأمن , تذكر غربته التي كان النظام سبباً فيها ... تذكر عدم متابعته للدراسة بعد وفاة والده ...لم يجد نفسه إلا وسط المظاهرة يهتف مع المتظاهرين بسقوط النظام المجرم , رصدته عين قناص للنظام كان في منطقة مرتفعة مطلة على المظاهرة , صوب بندقيته نحوه ثم أطلق رصاصة غادرة استقرت في رأسه , كان هناك خيالٌ لصورة ابنه الذي لم يولد بعد بقي ماثلاً أمام عينيه ... بعدها رفع سبابته لينطق الشهادة .. ثم فارق الحياة