تمضي بنا الحياة , تمر علينا فيها لحظات الفرح ولا يدوم في الدنيا حال , فتمر أيضا كثير من لحظات الألم والحزن , فنتغلب عليها بعضنا بينما يسيطر الحزن على كثير منا ويتغلب عليهم أحيانا أخرى , وربما نتعلق في الدنيا بأشخاص – علاقات طبيعية أو شرعية - فنقترب منهم ويقتربون منا ونعتبرهم نبض قلوبنا , , وبعد مرور سنوات العمر , يزداد تعلقنا وارتباطنا بهم , نتخذهم قدوة لنا ونستمد منهم الأمل في أكثر المواقف يأسا وإحباطا ولا نتخيل اللحظة التي نحياها بدونهم.
ولكن الإحساس الذي يراود كل منا ولا يفارقه , أنه ستأتي لحظة – حتمية - سنفترق فيها , فيعترينا الألم خشية أن يأتي اليوم الذي لا نرى أحبابنا في حياتنا , لا نسمع توجيهاتهم ونصائحهم , ولا نشعر بالاطمئنان القلبي بوجودهم حولنا حتى لو كانوا لا يقدمون لنا ما اعتادوا عليه من قبل .
ومما يؤكد لنا حتمية مجيئ تلك اللحظة يقيننا بأن الدنيا كلها لم تُبن على الاجتماع واللقاء , بل جُعل الفراق أساسا لها , فما من علاقة إلا وستأتي لحظة وستنقضي إما برحيل مادي بالموت أو السفر , وإما برحيل معنوي حين ينشغل كل خل عمن كان في سابق العهد خليلا له .
وينبغي على المؤمن أن يوطن نفسه دوما على ذلك حتى لا يشتد عليه الألم عند فراق من يحب حتى لا يجبره الموقف على أن يتحمل مالا يطيق , ولهذا نصح الأمين جبريل عليه السلام نبينا صلى الله عليه وسلم أن يجعل ذلك المعنى في قرارة نفسه ويذكر به أمته بأن الدنيا دار عمل لا دار لقاء وبقاء , ففي الحديث الذي رواه الحاكم وحسنه الألباني عن سهل بن سعد رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أتاني جبريل فقال : يا محمد ، عش ما شئت فإنك ميت ، وأحبب من شئت فإنك مفارقه ، واعمل ما شئت فإنك مجازي به ... " .
فقد الأحبة بالموت
ومن أشد أنواع الفراق ألما فراق موت الأحبة , فيحزن منه المؤمن والكافر على حد سواء , والحزن في هذه اللحظة طبيعة إنسانية , والبكاء فيه فطرة بشرية , فقد حزن النبي صلى الله عليه وسلم على وفاة زوجته السيدة خديجة رضي الله عنها , وبكى عن موت ابنه إبراهيم , فتعجب بعض الصحابة من بكائه إذ كانوا يتصورون أن بكاء الرجال نوع من النقص فيهم ينبغي أن يترفعوا عنه , فأوضح الرحمة المهداة لهم أن تلك الدمعات من الرحمة التي أودعها الله في قلوب عباده , ثم بين لهم ما لا يجوز منهم فعله مما لا يصح , ففي صحيح البخاري عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : دخلنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبي سيف القين وكان ظئرا لإبراهيم عليه السلام , فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم إبراهيم فقبله وشمه , ثم دخلنا عليه بعد ذلك وإبراهيم يجود بنفسه , فجعلت عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم تذرفان , فقال له عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه : وأنت يا رسول الله ؟ فقال " يا ابن عوف إنها رحمة ثم أتبعها بأخرى فقال صلى الله عليه وسلم إن العين تدمع والقلب يحزن ولا نقول إلا ما يرضى ربنا وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون " .
ولم يكن هناك ارتباط على وجه الأرض أقوى ولا أعظم من حب وارتباط أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم به , فقد كان أمواتهم يوصون أحياءهم بالدفاع عنه حتى الطرفة الأخيرة في أعينهم , وفي قول سعد بن الربيع وهو يجود بنفسه لزيد بن ثابت أعظم شاهد على ذلك , فينقل الذهبي في سير أعلام النبلاء قول زيد بن ثابت رضي الله عنه قَالَ : بعثني النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم أحد أطلب سعد بن الربيع ، فقال لي : إن رأيته ، فأقره مني السلام ، وقل لَهُ : يقول لك رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : كيف تجدك ؟ فطفت بين القتلى ، فأصبته وهو في آخر رمق ، وبه سبعون ضربة ، فأخبرته ، فَقَالَ : عَلَى رَسُولِ اللَّهِ السلام وعليك ، قل لَهُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ! أجد ريح الجنة ، وقل لقومي الأنصار : لا عذر لكم عند الله إن خلص إِلَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وفيكم شفر يطرف ، قَالَ : وفاضت نفسه رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ " .
ولا نتعجب من أن حُب الصحابة للنبي صلى الله عليه وسلم قد بلغ مبلغا عظيما , فهم الذين صحبوه وتعلموا منه وعاينوا رحمته ورفقه بهم ومحبته لهم , ففي الحديث الذي صححه الألباني في السلسلة الصحيحة عن عائشة رضي الله عنها قال : " جاء رجلٌ إلى النبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ فقال يا رسولَ اللهِ إنكَ لَأحبُّ إليَّ من نفسي وإنك لَأحبُّ إليَّ من أهلي وأحبُّ إليَّ من ولدي , وإني لأكون في البيتِ فأذكرُك فما أصبرُ حتى آتيكَ فأنظرُ إليك وإذا ذكرتُ مَوتي وموتَك عرفتُ أنك إذا دخلتَ الجنَّةَ رُفِعتَ مع النَّبيِّينَ وإني إذا دخلتُ الجنَّةَ خشيتُ أن لا أراكَ , فلم يردَّ عليه النبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ شيئًا حتى نزل جبريلُ عليه السلامُ بهذه الآيةِ { وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا } " .
ولكون هذا الحب والتعلق كبيرا كان الألم شديدا عند فراقه صلى الله عليه وسلم , فصور لنا أنس بن مالك صورة المدينة الفارق بين يوم مقدم النبي عليهم ويوم وفاته صلى الله عليه وسلم , ففي الحديث الذي صححه الألباني في تخريج أحاديث مشكاة المصابيح عن أنس قال " لما كان اليومُ الذي دخل فيه رسولُ اللهِ - صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم - المدينةَ ؛ أضاء منها كلُّ شيئٍ ، فما كان اليومُ الذي مات فيه ؛ أَظْلَمَ منها كلُّ شيئٍ، وما نَفَضْنا أَيْدِيَنا عن الترابِ وإنا لفي دَفْنِهِ ؛ حتى أَنْكَرْنا قلوبَنا " .
وبرغم التمهيد الذي كان في غزوة أحد إذ انطلقت إشاعة مقتل النبي نبى الله عليه وسلم وقعد من قعد عن الجهاد من شدة ألم الفراق وثبت من ثبت من الذين قال الله فيهم" مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً " , وبعدها نزلت الآية الكريمة التي ذكرتهم بأنه سيأتي حتما اليوم الذي سيموت فيه رسول الله , فقال سبحانه " وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ " , فبرغم هذا التمهيد والتجربة العملية إلا أن القلوب التي تعلقت به صلى الله عليه وسلم قد حزنت أشد الحزن للفراق .
وهناك أنواع أخرى من الفراق لا تقل ألما عن فراق الموت , بل تعتبر في بعض الأحيان أشد إيلاما منه :
فقد الأحبة بالتغييب المتعمد
ومنها آلام التفريق المتعمد بين الأحبة كالأبناء والأهل وتغييبهم عن مرأى الأعين بحبس أو ضياع , فربما يتسلى مفارق أحبته عند موتهم بذكراهم , ولكن كيف يتسلى مفارق أحبته وهو لا يعلم عنهم شيئا , ولا يعرف أهم في الأحياء فيذكرهم ويرجو لقاءهم وسمني نفسه بيوم تتكحل فيه عينه برؤيتهم , أم في الأموات فيقطع الأمل في نفسه وليسأل ربه الصبر ويطلب له ولهم الرحمة من الرحيم سبحانه , واليأس أحد الراحتين ويبرد القلب على ألم الفراق , فإن غاب الأحبة عن العيون فترة مهما طالت فلن ينسى القلب ذكراهم , فهذا يعقوب عليه السلام حينما فُرق بينه وبين ابنه الحبيب يوسف , ظل يبكيه دهرا حتى ابيضت عيناه من الحزن فهو كظيم , وكلما حدثت أمامه حادثة هيج قلبه على غيابه وتجددت آلامه , فقال له أبناؤه عند لحظة فقد ابنه الثاني وذكره ليوسف " وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ * قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ * قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ "
الفقد المعنوي للأحبة وتساقطهم :
إن كان النوعان السابقان متشابهين في كونهما فقدا للأحبة بغياب عن الأعين , فإن هناك ألما آخر لا يقل عنهم وطأة ولا شدة , ألا وهو أن تفقد من تحب من أصحاب العلاقات الأسرية أو الشرعية وهم أحياء , تفقدهم وأنت تراهم صباح مساء , تفقدهم حينما يسقطون من نظرك أو تسقطهم مواقفهم وتصرفاتهم معك من حساباتك , فالأجساد لا تزال هي الأجساد لم تتغير, ولكن النفوس هي قد تغيرت وتبدلت , وروح اللقاءات بهتت وذابت ولم تعد كما كانت , وأصبح مجرد افتعال البهجة عند القدوم والتأسف عند الفراق جزء من واجب روتيني يتم أداؤه بتثاقل شديد .
فما أقسى على قلبك أن تحس بأنك تفقد من كان رقما صعبا في حياتك لا يمكن تجاوزه – أو هكذا كنت تتصور - , ومن كنت تحب وهو يسكن معك داخل منزلك أو تُضطر إلى لقاء دوري يجمعكما , أو تشعر أنه من الضروري أن تتزاورا كصلة للأرحام حتى لا تُقطع , فتجد المسافات قد تباعدت بينكما جدا , وذلك بعد مرور فترة طويلة من العمر ظننت خلالها أنكما لن تفترقا حتى لو باعدت بينكما المسافات .
حينها يقول كثير من الناس ليتنا تعلمنا الدرس من حكمة النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي صححه الألباني في مسند الإمام أحمد عن علي أنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أحبب حبيبك هونا ما عسى أن يكون بغيضك يوما ما وأبغض بغيضك هونا ما عسى أن يكون حبيبك يوما ما " , ليتنا أدركنا ذلك الرقي في فهم العلاقات البشرية حتى لا نتحمل آلاما مضاعفة لا نقوى على حملها .
وعلى الرغم من هذه الآلام التي تتفاوت حجما وشدة إلا أن لها ايجابيات , من أهمها أنها تقطع على الإنسان توقع أن تدوم أية رابطة في الدنيا , وتجعله في وعي كامل بأن هذه الرابطة وهذا الحب ربما يفتر بعد فترة , فروابط الدنيا كلها إلى زوال , وليجعل قلبه متعلقا دوما بالرابطة التي لم ولن تنقطع وستبقى أبدا , وهي علاقة العبد بربه , فبها فرحه ويستمد سعادته " قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ " , وعليها يحرص ويعمل وعلى خسرانها يحزن الحزن الحقيقي , فما كان لله دام واتصل وما كان لغيره انقطع وانفصل ... وهكذا الدنيا بكل ما فيها .