وقفات مع مفهُوم «الرُّوَيْبِضَة»
5 ربيع الثاني 1434
د. عبد المجيد البيانوني

 
الحمد لله وحده ، والصلاة والسلام على من لا نبيّ بعده ، وبعد :
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ الله عَنْهُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : « قَبْلَ السَّاعَةِ سِنُونَ خَدَّاعَةٌ ، يُصَدَّقُ فِيهِنَّ الكَاذِبُ ، وَيُكَذَّبُ فِيهِنَّ الصَّادِقُ ، وَيَخُونُ فِيهِنَّ الأَمِينُ ، وَيُؤْتَمَنُ فِيهَا الخَائِنُ ، وَيَنْطِقُ فِيهِنَّ الرُّوَيْبِضَةُ » . رواه الحاكم في المستدرك (4/465) ، وقال : هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحُ الإِسْنَادِ ، وَلَمْ يُخْرِجَاهُ ، ووافقه الذهبيّ . 

 

قِيلَ : يَا رَسُولَ اللهِ : وَمَا الرُّوَيْبِضَةُ ؟ قَالَ : المَرْؤُ التَّافِهُ يَتَكَلَّمُ فِي أَمْرِ العَامَّةِ .
وفي رواية :  « إِنَّ بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ سِنِينَ خَدَّاعَةً » مسند البزار (7/174)
وفي رواية أخرى :  « يَكُونُ أَمَامَ الدَّجَّالِ سِنُونَ خَوَادِعٌ » المعجم الكبير للطبراني (12/438)
كثر في هذه الأيّام استدلال بعض الناس بهذا الحديث ، واتّهام مخالفيهم بـ « الرُّوَيْبِضَة » ، في معرض الردّ عَلَى مخالفيهم في الرأي ، وعدم مناقشة الرأي المخالف مناقشة موضوعيّة .. ممّا يدعو الطرفَ الآخر إلى جفوةِ مخالفه ، واتّخاذ موقف ردّة فعل أسوَأ وأشنعَ .. وضاعت الحقيقة وراء الأهواء المُتضاربة ..

 

وأحبّ أن أقفَ وقفة هَادِئةً معَ مفهُوم « الرُّوَيْبِضَة » ، وما وجاهةُ الاستدلالِ به في المناقشات العلميّةِ ، والحوارات الفكريّة .؟ وذلك مِن خلال النقاط التالية :
1 ـ ما المراد النبويّ بالرُّوَيْبِضَة .؟ لقد ذكر العلماء تفسيرات عديدة للرُّوَيْبِضَة :
فقيل من حيث الأصل اللغويّ : الرُّوَيْبِضَةُ : تصغير الرابضة ، وهو راعي الربيض ، والربيض : الغنم ، والهاء للمبالغة .
وقيل : الرُّوَيبضة تصغير الرَّابِضة ، وهو العاجز الذي رَبَضَ عن مَعَالي الأمُور ، وقعَد عن طَلَبها ، وزيادة التَّاء للمبالغَة .
وقيل التَّافه : الخَسِيس الحَقِير . كما في النهاية في غريب الحديث والأثر (2/460) .
وجاء ما يؤيّد هذا المعنى في البيان النبويّ : قِيلَ : وَمَا الرُّوَيْبِضَةُ يَا رَسُولَ اللهِ ؟ قَالَ مَنْ لَا يُؤْبَهُ لَهُ " .
وفي رواية : « السَّفِيهُ يَتَكَلَّمُ فِي أَمْرِ العَامَّةِ » . مسند أحمد (2/ 291) .
وفي رواية : " قِيلَ : يَا رَسُولَ اللهِ ! وَمَا الرُّوَيْبِضَةُ ؟ قَالَ : الفُوَيْسِقُ يَتَكَلَّمُ فِي أَمْرِ العَامَّةِ " شرح مشكل الآثار (1/ 404)
وفي حديث أشراط الساعة : « وأن تَنْطِق الرُّوَيْبضةُ في أمْر العامَّة ، قيل : وما الرُّوَيْبضة يا رسول اللّه .؟ فقال : الرجل التَّافِه يَنْطِق في أمْر العامَّة » .
وَقال الإمام الشاطبيّ : قَالُوا : هُوَ الرَّجُلُ التَّافَةُ الحَقِيرُ يَنْطِقُ فِي أُمُورِ العَامَّةِ ، كَأَنَّهُ لَيْسَ بِأَهْلٍ أَنْ يَتَكَلَّمَ فِي أُمُورِ العَامَّةِ فَيَتَكَلَّمُ . الاعتصام (2/ 681)

 

فالرُّوَيْبِضَة هُوَ الرَّجُلُ التَّافَةُ الحَقِيرُ يَنْطِقُ فِي أُمُورِ العَامَّةِ ، وَهُوَ مَنْ لَا يُؤْبَهُ لَهُ ، وَهُوَ الفُوَيْسِقُ يَتَكَلَّمُ فِي أَمْرِ العَامَّةِ ، وهو العاجز الذي رَبَضَ عن مَعَالي الأمُور ، وقعَد عن طَلَبها ..
وقد جاءَ وَصْفُ الرُّوَيْبِضَة في حديث بِالفِسْقِ ، وهُو ممّا يَمْنَعُ مِثْلَهُ مِنْ الكَلَامِ فِي أَمْرِ العَامَّةِ .. كما جاءَ وَصْفُهُ في حديث آخر بِأَنَّهُ لَا يُؤْبَهُ لَهُ ، وهذا ممّا يترتّب على فِسْقِهِ ، فلَا حَاجَةَ بِالنَّاسِ إلَيْهِ ، فَيَكُونُ بِذَلِكَ خَامِلًا لَا يُؤْبَهُ لَهُ ..

 

2 ـ ومن مجموع هذه الصفات ، وما توحي به نرى أنّ الحديث يشير إلى صنف من الناسِ لا يهمّهم أمرُ الدينِ في شيء ، فليسوا من صنف الخَوَارِجِ ، الذين وصفهم حَدِيثٌ آخرُ أنّهم : « يَقْرَؤُونَ القُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ » ، وَإِنّما هم أصحاب أهواء دنيويّة ، يرفعون رايات جاهليّة ، ويدعون إلى مبادئ ضالّة هدّامة ، ويتطلّبون التزعّم على الناس والرئاسة ، يشير إلى ذلك وصفهم بالتفاهة والفسق والحقارة ، فليسوا من طلاّب الحقّ ، ولا من ملتمسيه بصدق ، وَإِنّما هم من الأدعياء الكاذبين ، الذين لا تخفى أحوالهم على أدنى ذي بصيرة .. ولو زعموا أنّهم يدافعون عن الحقّ ، وينصرونه ..

 

إنّهم أئمّة الضلال ، ومن والاهم ، الذين ابتليت بهم هذه الأمّة ، وأتباع الأهواء والشهوات ، وقادة الضياع الفكريّ ، والانحراف السلوكيّ ، والفساد والإفساد الأخلاقيّ في الأرض ، يؤازرهم المنافقون المتشدّقون ، والجهلة بدين الله المغفّلون ، الذين قد يلبسون لباس العلم والهدى ، ولكنّهم يبيعون دينهم بعرض من الدنيا ، يستخدمون علمهم لتبرير الفساد ، والتماس الأعذار للسقوط والانحراف ، وخلط الحقّ بالباطل ، حتّى تضيع معالم الحلال والحرام ، والمعروف والمنكر في نظر العامّة ..

 

ويتصدّر هؤلاء ميادين العمل الاجتماعيّ ، والمسئوليّات الكبرى ، في الوقت الذي ينزوي الأخيار عن الساحة ، أو يفرض عليهم الإقصاء ، ويصبح أهل الحقّ قابضين على الجمر ، يُحارَبون من أقرب الناس إليهم ، ولا يجدون على الحقّ أعواناً .. 
وتنقطع الجسور بين أولي العلم والبصيرة بدين الله ، والغيرة على حرماته ، وبين هؤلاء من أولي الظلم والقهر ، الذين يمسكون بزمام الأمور ، فلا يبقى بينهم إلاّ التنازع والصراع ، الذي ربّما يخفت تارة ، ويتأجّج تارة أخرى ، وتكثر الخروق في سفينة المجتمع وتتّسع ، فلا يكاد أهل الحقّ يعالجون أمراً حتّى تفجأهم أمور ..

 

3 ـ الأحاديث التي ذكرت « الرُّوَيْبِضَة » جعلت وجوده متّصلاً بالساعة ، فهو من علاماتها ، لأنّه قَبْلَ السَّاعَةِ ، أو بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ ، أو يَكُونُ أَمَامَ الدَّجَّالِ .. وكلّها معان متقاربة ، وتنزيل أمثال هذه الأحاديث على واقع معيّن ، في زمن معيّن ، فيه مجازفة شرعيّة وتجاوز ، إذ ما الذي يدرينا أنّ زماننا هذا مقارب للساعة ، وهل عندنا من دليل على ذلك .؟! وقد أخطأ في هذا الأمر عدد من الكتّاب والباحثين وطلاّب العلم الشرعيّ ، عندما جمعوا أحاديث الفتن في آخر الزمن ، وفسّروا الواقع بها ..
كما سبق في هذا الخطأ بعض العبّاد والزهّاد في القرون الأولى ، فرأوا بعض الفتن فنزّلوا أحاديث الفتن في آخر الزمن عليها ، فاعتزلوا الناس ، وبعضهم هجر المدن ، ولجأ إلى البراري .. ثمّ كشفت الأيّام خطأهم وسلبيّة عملهم ..

 

4 ـ ولا يخفى أنّ وصف إنسان لآخر بعينه بالرُّوَيْبِضَة ، لخلاف معه بالرأي والفكر ، وبخاصّة إذا كان يستند في رأيه إلى اجتهاد معتبر عند أهل العلم ، ليس من الموضوعيّة في الحوار في شيء ، بل هو اتّهام وتجريح لا يُنتظَر ممّن يُواجه به إلاّ ردّة فعل أشدّ وأعتى ..

 

ومعلوم أنّ إطلاق هذا الوصف على نوع عامّ غير إطلاقه على شخص معيّن ، يوصف بذلك الوصف فيما نظنّ ، أو يحمل ذلك الفكر والرأي ويدافع عنه .
فمن يحاجّك بدين الله لا ينفع معه إلاّ أن تحاجّه بالدليل ، ومن يحاجّك بمنطق العقل لا ينفع معه إلاّ أن تحاجّه بمنطق مثله ، مع سموّ في لغة الخطاب ، وأدب في أسلوب الحوار .. أخذاً بالهدي الربّانيّ الكريم : {وَلاَ تُجَادِلُوا أَهْلَ الكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ .. ﭬ} [العنكبوت:46] 

 

وقد مرّ على الأمّة زمن تحوّل فيه الحوار العلميّ إلى معارك كلاميّة حامية الوطيس ، من التراشق بالتهم ، وإطلاق الألقاب ، والسخرية والاستهزاء ، فما جنت الأمّة من وراء ذلك إلاّ مزيداً من التفرّق والاختلاف ، وكانت فرصة ذهبيّة لأعداء الإسلام لتأجيج الخلاف وتعميقه ، والتسلّل إلى حصون الأمّة وتخريبها من الداخل ..

 

5 ـ وإنّ ممّا لا يخفى على ذي لبّ أن لا عبرة في العلم والفهم بكبر السنّ أو حداثته ، فقد يفتح الله على الصغير بما لم يبلغه الكبير ، و « المرء بأصغريه : قلبِه ولسانِه » ، وكم من طالب سبق شيخه ، وتلميذ فاق أستاذه .؟!
وقد أخبرنا الله جلّ وعلا عن دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ عليهما السلام ، فقال سبحانه : {وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ القَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِين ﮥ  فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلاًّ آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا ...  ﯘ }[الأنبياء:79]
وَقد رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ رَضِيَ الله عَنْهُ أنّه قَالَ : « قَدْ عَلِمْتُ مَتَى يَهْلِكُ النَّاسُ ! إِذَا جَاءَ الفِقْهُ مِنْ قَبِلَ الصَّغِيرِ اسْتَعْصَى عَلَيْهِ الكَبِيرُ ، وَإِذَا جَاءَ الفِقْهُ مِنْ قِبَلِ الكَبِيرِ تَابَعَهُ الصَّغِيرُ فَاهْتَدَيَا » .
وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ الله عَنْهُ : « لَا يَزَالُ النَّاسُ بِخَيْرٍ مَا أَخَذُوا العِلْمَ مِنْ أَكَابِرِهِمْ ، فَإِذَا أَخَذُوهُ عَنْ أَصَاغِرِهِمْ وَشِرَارِهِمْ هَلَكُوا » .

 

قال الإمام الشاطبيّ في الاعتصام (2/ 683) : « وَاخْتَلَفَ العُلَمَاءُ فِيمَا أَرَادَ عُمَرُ بِالصِّغَارِ ، فَقَالَ ابْنُ المُبَارَكِ : « هُمْ أَهْلُ البِدَعِ ، وَهُوَ مُوَافِقٌ ، لِأَنَّ أَهْلَ البِدَعِ أَصَاغِرُ فِي العِلْمِ، وَلِأَجْلِ ذَلِكَ صَارُوا أَهْلَ بِدَعٍ » .
وَقَالَ البَاجِيُّ : يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الأَصَاغِرُ مَنْ لَا عِلْمَ عِنْدِهِ . قَالَ : وَقَدْ كَانَ عُمَرُ رَضِيَ الله عَنْهُ يَسْتَشِيرُ الصِّغَارَ، وَكَانَ القُرَّاءُ أَهْلُ مُشَاوَرَتِهِ كُهُولًا وَشُبَّانًا .

 

وهذا هو القول الحقّ ، الموافق لمنطق العقل .. والمتّفق مع سلوك عُمَرَ رَضِيَ الله عَنْهُ ، إذ كان يقرّب ابن عبّاس رَضِيَ الله عَنْهُما ، وهو صغير السنّ ، فيجعله مع خاصّة أهل شوراه من كبار المهاجرين والأنصار .
وقَالَ البَاجِيُّ أيضاً : وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِالأَصَاغِرِ مَنْ لَا قَدْرَ لَهُ وَلَا حَالَ ، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إِلَّا بِنَبْذِ الدِّينِ وَالمُرُوءَةِ . فَأَمَّا مَنِ التَزَمَهُمَا فَلَا بُدَّ أَنْ يَسْمُوَ أَمْرُهُ ، وَيَعْظُمُ قَدْرُهُ » .
قلت : وهذا ما يؤكّد ما رجّحته من تفسير « الرُّوَيْبِضَة » .

 

وبعد ؛ فلا أجد مبرّراً شرعيّاً ، ولا دعويّاً للاستدلالِ بهذا الوصف : « الرُّوَيْبِضَة » ، والاتّهام به في المناقشات العلميّةِ ، والحوارات الفكريّة ، وخير لنا أن نحرّر مواطن نزاعنا بدقّة ، ونتحاور حولها ، ولا نلتفت لسفه المسفّين وجهل الجاهلين ..
هذا ، والله تعالى أعلم ، وصلّى الله وسلّم وبارك على عبده ونبيّه سيّدنا محمّد ، وعلى آله وصحبه أجمعين . والحمد لله ربّ العالمين .