الجريمة الباردة
7 جمادى الأول 1434
حميد بن خبيش

يهتز المجتمع المغربي ,بل وجل بلدان العالم الإسلامي كذلك, بشكل شبه يومي في الآونة الأخيرة , على وقع جرائم بشعة تثير الذهول و الحيرة لتفاهة الأسباب المؤدية لارتكاب الفعل الإجرامي , و في أحيان كثيرة لانعدام سبب مقنع وراء الإقدام عليه

فبين هتك عرض قاصرين , و التمثيل بالجثث, وارتكاب مجزرة في حق زملاء العمل لفض خلاف ,أوالتنفيس عن الإحساس بالغبن  , يشعر المواطن العادي بأن تطورا مخيفا يحدث اليوم على مستوى العلاقات الإنسانية داخل المجتمع . إذ لم يعد الأمر وقفا على جرائم تقليدية يمكن إلى حد ما تبريرها أخلاقيا بردها إلى ردود أفعال إنسانية كالدفاع عن الشرف , أو الطمع أو الثأر , بل تطور إلى نمط غريب من الإجرام تُنتهك فيه الأعراض , وتُزهق الأرواح دون الحاجة إلى تبرير !
 

نحن بالتأكيد إزاء مظاهر لما سماه الدكتور المسيري ب " العلمنة الشاملة للجريمة " التي تقوم على الاستبعاد التدريجي للعنصر الإنساني من الجريمة للوصول إلى مستويات أعلى من الضبط و التحكم عن طريق تنظيم العواطف " الشريرة أو الخيرة " , ثم عن طريق استبعاد مشاعر الحب أو الكره أو الطمع منها (1) .   

 
لكن الملفت للانتباه هو أن التناول الإعلامي للظاهرة يُلقي بالتبعة على الحالة النفسية أو الوضع الاجتماعي للمجرم , وبذلك يوهم المتتبع بالبُعد الفردي للحادثة من خلال عزلها عن سياق مجتمعي تتدخل فيه أطراف معينة , ومن بينها الإعلام نفسه ! , لتهيئة المناخ الكفيل بتنامي الظاهرة .

 

إن الإعلام العربي ,في تسويقه لحداثة شرسة تقطع مع الهوية و القيم و النموذج المعرفي الإسلامي , يحذو دون شك حذو نظيره الغربي في تحرير الغرائز , و التطبيع مع العنف و الإباحية .

 ففي معرض كشفه لآليات نشر النموذج العلماني , يُوجه الدكتور المسيري انتباهنا إلى دور الإعلام الذي يقبل بالمرجعية الأخلاقية المادية , في جعل عالم الجريمة عالما مسليا جدا عن طريق فصلها عما هو أخلاقي أو ديني أو إنساني , بحيث تبرز الجريمة كمجرد حدث هدفه الأوحد إشباع رغبة القراء أو المشاهدين في رؤية العنف(2) .

ولنا أن تخيل ما يُحدثه الكم الهائل من أفلام الحركة , و ألعاب الفيديو , والبرامج التي تعيد رسم وقائع الجريمة , من آثار سلبية خصوصا في نفوس الأطفال و المراهقين المولعين بالتقليد و نقل ما يُشاهدونه إلى فضاء الحياة اليومية ! بل إن بعض هذه البرامج لا يتورع عن الإشادة الضمنية ببراعة المجرم , و ذكائه في التخطيط و التنفيذ بشكل يُنهك الأجهزة الأمنية , و يُربك سعيها إلى كشف هويته . و بذلك يطرح اللص البارع , و القاتل المحترف مدلولا مغايرا للبطولة و الشجاعة ,كما جرى تمثلها سابقا في نموذج الفارس الشهم . بمعنى أن الجيل الناشيء اليوم يعتد ببطولة مجردة من بُعدها الأخلاقي و الإنساني .

 

نخلص إذن إلى أننا أمام تحريض إعلامي ضمني و غير مباشر . وأن التنافس والاقتباس غير الواعي لكل ما يروج له الإعلام الغربي ,هيآ مناخا مناسبا لاستنبات أشكال متطرفة  من الانحراف الإنساني داخل المجتمعات المسلمة .

وإذا كانت التشريعات الجنائية المعاصرة تعاقب المنفذ للركن المادي للجريمة , فإن الشرع الإسلامي كان سباقا لتحميل المُحرض قسطا من المسؤولية باعتباره الشرارة الأولى لإيجاد الفكرة الجرمية , و حمل الآخرين على اقترافها . فقد تكلم فقهاء الشريعة الإسلامية  عن موضوع التحريض عند حديثهم عن الاشتراك في الجريمة , وقسموه إلى : اشتراك  مباشر , واشتراك بالتسبب .

وأساس هذه التفرقة أن الأول يُباشر تنفيذ الركن المادي للجريمة , و الثاني يتسبب في الجريمة باتفاقه أوتحريضه أوبذل العون ,بعيدا عن تنفيذ الركن المادي للجريمة . حيث اعتبروا التحريض صورة من صور الاشتراك بالتسبب وهي الاتفاق  و التحريض و الإعانة (3) !

إن ما يتعرض له المسلم المعاصر من قصف إعلامي يومي ,مُشبع برسائل اللذة و العنف , يُسهم لا محالة في تغذية الفعل الإجرامي , و إكسابه بُعدا موغلا في الوحشية و التجرد من كل ملمح إنساني. وهو ما يتطلب مراجعة حازمة للخطاب الإعلامي في المجتمع المسلم صونا للهوية و القيم , وللوجود الإنساني الذي يندفع , تحت إغراء الحرية الزائدة , صوب المنحدر !

 

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) د.عبد الوهاب المسيري : العلمانية الجزئية و العلمانية الشاملة . ج2 . دار الشروق 2002 .ص 177 .
    (2)    المرجع السابق .ص 134 .
    (3)   فهد العرفج : التحريض على الجريمة في الفقه الإسلامي و النظام السعودي . بحث لنيل الماجستير . جامعة نايف
            العربية للعلوم الأمنية .2006. ص 2  .