تكثر في أوقاتنا تلك شكوى الكثير من الآباء والأمهات من فقدان أطفالهم الثقة في أنفسهم، وعدم قدرتهم على تحمل المسئولية، ويتخوفون من انعكاس ذلك على مستقبل أطفالهم، ولاشك أن الثقة في النفس من أهم الخصال التي يسعي الوالدان لزرعها في نفوس أطفالهم منذ الصغر، ونرى كثيرًا منهم يتأففون لعدم قدرة أطفالهم على إتمام عمل ما لفقدانهم الثقة بأنفسهم.
ولقد كان الرسول – صلى الله عليه وسلم – يعلم أن أطفال اليوم رجال الغد، لذا أولى عناية بصغار الصحابة، لأنه أدرك بحس المربي أن الحمل الذي سيتركه لهم ثقيل، ويحتاج إلى نفوس واثقة، في الله أولاً، وفي نفسها وإمكاناتها وقدراتها ثانيًا، ولهذا استوقفني حديث نبوي؛ رأيت فيه مثالا حيا لزرع الثقة في نفس الأطفال بصورة عملية نبوية فريدة ..
عن ابن عباس – رضي الله عنه - كنت خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما قال يا غلام ، إني أعلمك كلمات : أحفظ الله يحفظك ، أحفظ الله تجده تجاهك ، إذا سألت فاسأل الله ، وإذا استعنت فاستعن بالله ، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء ، لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك ، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك ، رفعت الأقلام وجفت الصحف.
في هذا الحديث نجد ملامح تربوية كثيرة , وأول ملمح هنا قول "ابن عباس" رضي الله عنه" [ كنت خلف رسول الله – صلى الله عليه وسلم -]، فرسول الله – صلى الله عليه وسلم – رغم مهامه الكثيرة والصعبة كنبي – صلى الله عليه وسلم - ، وقيادته لأمة بأكملها ، ترك كل هذا ليأخذ صغيرا على راحلته ، ويعلمه كلمات مهمة له ، ذلك هو ( فن المصاحبة ) والذي لا يجيده الكثير من المربين في زماننا هذا.
فلكي نغرس تلك الثقة المفقودة في نفوس أطفالنا، يجب أن نصاحبهم ونكون مدخلا لهم لعالم الكبار، فأثر ذلك في نفوسهم عظيم، فرغم مرور السنين لم ينس "ابن عباس" – رضي الله عنه – تلك الكلمات المهمات، ونقلها للأمة لكي تتوارثها جيل وراء جيل حتى يرث الله الأرض بمن عليها.
وأثر تلك المصاحبة أن استوعب "ابن عباس" – رضي الله عنه -، تلك الكلمات، وفتح قلبه لها، فدخلت واستقرت، لتخرج لنا ( حبر الأمة )، فلقد علم الرسول – صلى الله عليه وسلم – مفتاح قلب "ابن عباس" – رضي الله عنه -، وهذا هو المراد من الموعظة أن تدخل القلب لتستقر فيه، لا أن تكون مجرد كلمات عابرة على الآذان لذا كان الرسول يتحين تلك اللحظات ليزرع فيها الثقة والخصال النبيلة في نفوس أصحابه، فعن عبد الله بن مسعود – رضي الله عنه – قال : [ كان النبي صلى الله عليه وسلم يتخولنا بالموعظة في الأيام كراهة السآمة علينا ].
وملمح أخر نستقيه من الحديث، هو قوله – صلى الله عليه وسلم – [ يا غلام ، إني أعلمك كلمات ]، فلنأتي بطفل أيًا كان عمره، ونختصه بحديث أو سر ما، ذلك يؤكد ثقته في نفسه، وأنه يمكن الاعتماد عليه، وهذا ما فعله الرسول – صلى الله عليه وسلم – مع "ابن عباس – رضي الله عنها "، فقد انفرد به على الراحلة، وأودعه كلمات مهمة له ولباقي الأمة، وحمل الصغير الأمانة، وبلغها للأمة كلها بدون أن ينقص منها أو يزيد، فحاول أن تجعل بينك وبين طفلك كلمات، تبني بها ثقته في نفسه.
وبعد ما تم زرع الثقة في نفس "ابن عباس"، تاقت نفسه واستعدت لاستقبال تلك الكلمات الخالدات ليوم الدين، لتستكمل زراعة الثقة والاعتماد على الله أولاً وقبل كل شيء، ثم النفس .. [ أحفظ الله يحفظك، أحفظ الله تجده اتجاهك ] .. رقابة ذاتية على النفس، وذلك النوع من الرقابة لا يتم على النفس إلا عندما تستوثق في ربها، ومن قدراتها.
[ إذا سألت فسأل الله .. وإذا استعنت فاستعن بالله ]، وهنا غرس الرسول – صلى الله عليه وسلم – التوكل على الله، والتوكل أيضًا لا يخرج إلا من نفس واثقة، فكانت تلك الكلمات تطبيقا عمليا لتنمية الثقة في النفس التي بدأها الرسول قبل نطقه لتلك الكلمات.
ويأتي ختام الكلمات [ واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء ، لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك ، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك ، رفعت الأقلام وجفت الصحف ]، قاعدة لمن يثق في نفسه وفي اختياراته، امض ولا تلتفت لتدبير البشر، فقد دبر الله – عز وجل – الأمر، ورفعت الأقلام وجفت الصحف، فامض في طريقك واثقاً في تدبير الله لك.
بتلك الكلمات الذهبية استطاع خير البشر زرع ثقة في نفوس أصحابه، فخرجوا غير عابئين بما سيلقونه من صعاب، فأضاءوا الدنيا بنور إيمان قلوبهم، ونحن الآن في أمس الحاجة لمثل أولئك الواثقين، فلنزرع بتلك الكلمات والقواعد، ثقة لا متناهية في نفوس أطفالنا.