السيرة النبوية و هجمة الطابور الخامس
24 جمادى الثانية 1434
حميد بن خبيش

في كتابها الشهير " من الذي دفع أجرة الزمار ؟ الحرب الباردة الثقافية" تكشف مسؤولة المخابرات الأمريكية " فرانسيس ستونور ساوندرز" النقاب عن الدورالذي لعبته هذه الوكالة لتجنيد المثقفين عبر العالم . وسرطنة الأوساط الفكرية و العلمية من خلال تمويل الدراسات المشبوهة , و إحداث المعاهد و المراكز التي تعيد صياغة الحقائق و تشكيل العقول وتوجيه الرؤى بشكل يتوافق مع الأسلوب الأمريكي

وقد لعبت "منظمة الحرية الثقافية" , باعتبارها ذراع التجسس السري لوكالة المخابرات المركزية , دورا كبيرا في استمالة عدد هائل من الفنانين و الإعلاميين و المفكرين لدعم طروحاتها من خلال المعارض الفنية و المؤتمرات و الصناعة السينمائية ووسائل الإعلام المختلفة .

ولعل أخطر المشاريع التي أوردتها المؤلفة في هذا السياق , مشروع الحرب النفسية الأمريكية الذي تبناه الرئيس الأمريكي السابق إيزنهاور إبان الحرب الباردة , وكان الهدف منه هو الانتصار في الحرب العالمية الثالثة دون الاضطرار لخوضها . يقول إيزنهاور " هدفنا في الحرب الباردة ليس الاستيلاء على أراض أو إخضاع الآخرين بالقوة .

هدفنا أكثر براعة و أوسع مجالا و أكثر اكتمالا . نحن نحاول أن نجعل العالم يصدق الحقيقة بالوسائل السلمية . و الحقيقة هي أن الأمريكيين يريدون عالما يعيش في سلام , عالما تكون الفرصة فيه أمام جميع البشر لأقصى تقدم فردي ممكن .

و الوسيلة التي سوف نستخدمها لنشر هذه الحقيقة تسمى عادة بالوسيلة النفسية . لا تخافوا من هذا المصطلح لأنه ليس مجرد كلمة من خمسة مقاطع –خمسة دولارات , الحرب النفسية هي الصراع من أجل إرادات وعقول البشر " (1)

في هذا السياق يندرج المخطط العلماني الاستئصالي الذي يبذل وسعه اليوم لفرملة التجربة الإسلامية التي مكنتها الإرادة الشعبية من تولي مسؤولية الحكم . كما لا يخفي استقواءه بالأجنبي في سعيه المحموم لزعزعة استقرار البلد , وإثارة الفتن , وإفشال مساعي الأمة للنهوض و التحرر و استكمال البناء الحضاري .

ومن خلال هذا السياق كذلك نخلص إلى سر انكفاء المثقف العربي الذي يمثل التعبير الحق عن ضمير الأمة ونزوعها المستمر للحرية و الكرامة و النهوض , مقابل الصعود المثير للمثقف الخادم للأجندة الفكرية المدمرة بشتى صيغها و تلاوينها المعروفة .

إن هذه التوطئة ضرورية لاستيعاب الضجة التي أثيرت مؤخرا في المغرب بشأن ما أدلى به الناشط الأمازيغي المغربي أحمد عصيد . ففي جلسة افتتاحية للمؤتمر العاشر للجمعية المغربية لحقوق الإنسان , صرح الباحث بأن الرسائل الدبلوماسية التي بعث بها الرسول صلى الله عليه وسلم للملوك ذات حمولة إرهابية ولا يجدر تضمينها في مقرر التربية الإسلامية , كما أنها تخالف القيم الكونية التي تعد اليوم اسمى ما وصلت إليه الإنسانية !
و أن الطرح الإسلامي الذي فرض نفسه قديما بالسيف , يتناقض الآن بشدة مع المرجعية الدولية لحقوق الإنسان .

بغض النظر عما ورد في هذا التصريح المتهافت , والذي يكشف ضحالة التكوين المعرفي و العلمي للباحث وجهله بأبسط قواعد البحث و النظر في النص الديني , فإن بودي التساؤل حقيقة حول السر وراء تحوله المفاجيء من الدفاع عن الأمازيغية إلى إشعال الحرائق في المشهد الديني و الفكري بالمغرب :

هل يتعلق الأمر بحرية مكفولة في تقييم تجربة وصول حزب إسلامي للحكومة ؟
أم هو التأثيث المتعمد لمشهد صدام يأمل عصيد في حدوثه بين الإسلام و الأمازيغية ؟

إن مقولة انتشار الإسلام بالسيف فرية تولى حتى كتاب الغرب من المنصفين و المعتدلين تفنيدها . أما ادعاء التناقض بين القيم الإسلامية و مثيلتها "الكونية" فتكفي لدحضه عشرات الأدلة عن اتساع القوة الجاذبة للإسلام في الغرب , و تشكل بوادر حقيقية للاعتراف به كعلاج للأزمة الأخلاقية التي تنخر كيان الحضارة الغربية (2)

بيد أن ما صرح به الباحث المغربي يحيل على إشكال تربوي تمت الإشارة إليه في مقال سابق (3) و يتعلق بمدى فاعلية الحضور التربوي للسيرة النبوية في النظم التعليمية , ومغبة الوقوف عند حدود الرصد التاريخي الذي لا يمكن أن يحقق مقصد التأسي و الاقتداء كما نص عليه القرآن الكريم .

و بالنظر لهيمنة المرجعية الغربية على الأداء الثقافي و الإعلامي لشريحة واسعة من المثقفين , فإن الرد على عصيد , من داخل المرجعية نفسها وعبر كتابات أقرب للتجرد و الموضوعية , قد يكون ,برأيي المتواضع , أبلغ في الإفحام و أدعى لدحض الافتراء .

يؤكد توماس كارلايل بأن دعوة محمد صلى الله عليه وسلم كانت بالموعظة و الحكمة , و أن فرية نشر دينه بالسيف ليست سوى تشنيع من بعض الغربيين , و إنكار لدفاع الحق عن نفسه أمام صولة الباطل و طغيانه , يقول كارلايل " و أرى عموما أن الحق ينشر نفسه بأية طريقة , حسب ما تقتضيه الحال . أولم تروا أن النصرانية كانت لا تأنف أن تستخدم السيف أحيانا ؟ و حسبكم ما فعل شارلمان بقبائل السكسون ! و أنا لا أحفل أكان انتشار الحق بالسيف , أم باللسان , أم بأية آلة أخرى .

فلندع الحقائق تنشر سلطانها بالخطابة أو بالصحافة او بالنار .. فإنها لن تهزم إلا ما كان يستحق أن يُهزم , و ليس في طاقتها قط أن تفني ما هو خير منها , بل ما هو أحط و أدنى " (4).

و على نفس المنوال يمضي السير أرنولد في الإشادة بالصبغة التبشيرية الخالصة للكتب التي أرسلها النبي صلى الله عليه و سلم إلى الملوك , وللبعوث الدينية التي وجهها للقبائل العربية . كما يؤكد على عدم ميل النبي لاستخدام القوة بدليل الصدود الذي قوبلت به بعض هذي الرسائل و البعوث .

وهو يُرجع السر وراء الامتداد القياسي للدعوة الإسلامية إلى بساطة الدين ووضوح تعاليمه " إن البساطة الجوهرية في الصورة التي يصاغ فيها هذا الدين , و الدليل الذي كسبه هذا الدين من إقناع الدعاة الذين يقومون بنشره اقتناعا يلتهب حماسة و غيرة ; إن هذا كله يكون الأسباب الكثيرة التي تفسر نجاح جهود دعاة المسلمين . و كان من المتوقع لعقيدة محددة كل التحديد , خالية كل الخلو من جميع التعقيدات ,ثم هي تبعا لذلك في متناول الشخص العادي أن تمتلك , و إنها لتمتلك فعلا , قوة عجيبة لاكتساب طريقها إلى ضمائر الناس " (5).
أما هنري دي كاستري فيسخر من فرية انتشار الإسلام بالسيف قائلا" ولو كان دين محمد صلى الله عليه وسلم انتشر بالعنف و الإجبار للزم أن يقف سيره بانقضاء فتوحات المسلمين , مع أننا لا نزال نرى القرآن يبسط جناحيه في جميع أرجاء المسكونة" (6)
وفي معرض المقابلة بين التصورين الإسلامي و الغربي لحقوق الإنسان فيخلص الدكتور مراد هوفمان إلى أن هيكل الحقوق الإنسانية لن يتصدع طالما فُهم معنى الحقوق الإسلامية كما يفهمه الإسلام أي أن الحقوق ليست من وضع الإنسان , و إنما يجدها الإنسان فيتعرف عليها , وليس هو موجدها .

وأن إنكار المرء لوجود الله يضع كافة الحقوق تلقائيا تحت رحمة الإنسان و تصرفه . فضلا عن ذلك , فإنه لم يتح لأي إنسان منذ بدء الخليقة أن يخرج علينا بنظام قانوني مقنع عام , استقاه أو استوحاه من مراقبته الدارسة للطبيعة (7)

وختاما , فإن ما ورد في هذه السطور غيض من فيض الاعتراف بعالمية الرسالة المحمدية , وسمو التشريع الإسلامي و استجابته للفطرة الإنسانية . و إن كان من فضل يُحسب لصيحات الطابور الخامس في العالم الإسلامي , فهو أنها تبعث في نفوس المسلمين حماسة الذود عن حياض الشريعة و سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم . وتوقظ همة أوشكت أن تتداعى تحت سياط الوهن .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) ف.س.سوندرز : من الذي دفع للزمار ؟ الحرب الباردة الثقافية . المركز القومي للترجمة. ط4 . 2009 . ص 175 .
(2) يراجع كتاب : الإسلام في الألفية الثالثة : ديانة في صعود للمفكر الألماني المسلم مراد هوفمان .
(3) انظر مقال : السيرة النبوية رهان تربوي لحميد بن خيبش
(4) توماس كارلايل : محمد المثل الأعلى . مكتبة النافذة . ط 2008 . ص 94-95
(5) سير .ت.و. أرنولد : الدعوة إلى الإسلام . مكتبة النهضة المصرية . 1947 . ص 346
(6) الكونت هنري دي كاستري : الإسلام خواطر و سوانح . مكتبة النافذة . ط 2008 . ص 131
(7) د. مراد هوفمان : الإسلام كبديل . مكتبة العبيكان . ط2 . 1997 . ص188