أكثر المواقف إيلاما موقف الفرقة بين الاصدقاء , بعدما جمعتهم الصحبة الطويلة , وآنستهم العشرة الحسنة , وعرفت خطواتهم معا الطرقات , وتكاثرت بينهم المشاركات , في السراء والضراء , فتتألم قلوب الكرام من موقف الفراق أشد إيلام , وتنكسر بفقد خليلها , وتتحسر على عهد مضى كانوا فيه أخلاء وصحبة , حتى إن ذكرياتهم معا لاتكاد تفارق مخيلتهم و لا تكاد تبتعد عن عيونهم .
والأصدقاء في فراقهم أنواع وأشكال :
فمن غائب عن صاحبه لشغل اشتغل به رغما عنه , فجمع يومه كله , فلم يبق له منه شىء , فلم يستطع أن يرعى صديقه , ولا يصاحب طريقه , ولا يأتنس بخلته , ومع طول البعاد صار لا يلقاه إلا في المناسبات الجامعة
ومثل هذا له العتاب الرقيق , والوصل الشفيق , فهو لن يعدم تواصلا في ساعات الراحات , ولن يعدم زيارة في ايام الأجازات , ولن يعدم مرسالا بهدية , أو مكالمة تحسن الحالة المعنوية ..
ومن غائب لجمع مال , هو في كفاية منه , ففضل المال على صحبة صديقه , والسير في طريقه , فهذا عتابه اشد , والغضب منه أظهر , فقد فضل الدرهم والدينار , والريال والجنيه والدولار على صحبة الأخيار
فينبغي أن يكون له من صديقه الوجه الخشن والسلام العاتب والقول الصريح , وله في ذلك فرصة تلو الأخرى , فإن اصر واستمر , فنصيحتي لصديقه أن يتابعه بالمراسلة والمكاتبة , والزيارة مااستطاع عن بعد , ولايكثر من السؤال عنه , ولايكثر من زيارته , بل تكون زيارته والسؤال عنه للتذكير بالله ومعرفة إن كان في ملمة أو مشكلة , وغير ذلك فلا , وليجعله في جدول من أصدقاء ليسوا في المرتبة الأولى
ومن غائب لتحزب أو لفرقة خلاف فكري , أو لاختلاف فقهي أو سياسي , فتسبب ذلك في فراقهم وأدخل الشيطان فيما بينهم , وهذا ينبغي أن يكون له من صديقه التفهيم والتعقيل , وأن يبسط صدره له , ويوسع فهمه لخلافه , فالخلاف المعتبر لايفسد الوداد , واختلاف الرؤى لا يباعد الأجساد , فليسع إلى ود صديقه و وليجتنب حواره فيما يسبب غضبه وفراقه ويثير أعصابه ويغيم إشراقه , فإن أصر الصديق ذلك على الفراق , فليصبر على حسن المعاملة , وليلذ بالصمت دون المجادلة , فإن اصر , فليس له من صديقه إلا السلام والابتسام , مع التقدير والاحترام
فإن كان سبب الفراق سوء أو ظلم أو خيانة , وعرف الدليل واتضحت الإبانة , وطال بينهما زمان المفارقة , فليعلم الصديق أن الله ناصره , وأن الحق ظاهره , فلا يتعجل وليصبر على صاحبه مع رد السوء بكلمة الحسنى , عملا بقوله تعالى " وقولوا للناس حسنا "
فإن دارت الايام , وجاءه ليعتذر , فليقبل عذره , وليغفر له , لكن ليضعه في مرتبة خاصة , دون الصديق الصدوق الوفي الذي لم يرتض فيه ملامة ولم يرض عنه كلمة سوء ولم يرتض وصفه بندامة
ومن الاصدقاء من هو صاحب منفعة , فطول بقائه معك طول بقاء منفعته منك , فذلك فاطرح صحبته , ولا تبق منها إلا فعل الخيرات والنهي عن المنكرات
ومنهم من يقدم نفسه عليك دوما ويعطيك البقية , فيشرب من الإناء , ويعطيك سوره , ويريد منك أن تكون له خدما , فلا يبتدىء بفضيلة حتى تكون أنت البادىء , ولا يفاجئك بمكرمة حتى تكون أنت المفاجىء , فمثل هذا ليس بصديق , ولم يرتق لمرتبة الخلة معك , فأنصحك بمصارحته ومكاشفته , ومعاملته بالمثل حتى ينتهي , فإن انتهى فاقبله , وإلا فلا , ولاباس ببعض الفضائل والدعاء له بالخير على كل حال
ومنهم من يعامل صاحبه كالزوجة العصية , تغضب في لحظة , وتدير وجهها عنه في لحظة , ترضى إذا أحسن إليها , وتقلب له ظهر المجن إذا أخطأ , فهو فاجر في خصومته , لا يذكر عند الخصومة ودا , وقد يصبر على بعد صاحبه دهرا , فمثله فلا تعده في مراتب الأصدقاء , لكن عامله بالمداراة , واعرف مرتبته المتدنية , مع مكاشفته بأفعاله الغبية
وبالعموم مذهبي مع هؤلاء ,الا أعاقب بالهفوة , ولا بالخطأ المفرد ولا المتكرر مرة وأخرى , لكن إن كان الغلط ديدنه فهو ذاك المعاقب , وطريقتي معه أن تعرف قدر كل على حدة , وتضع كلا منهم في مرتبة , فتقربهم بحسب مرتبتهم , لكن لا تعدهم شيئا في تقلب الزمان , وادع الله لهم بالإصلاح الواحد الديان
أما الصديق صاحب الوفاء العالم بالحقوق , كثير الفضائل الصالح الخلوق , الذي هو بالسؤال عنك دائم , وبصحبتك سعيد ملازم , وفي مصائبك داعم , وعلى إسعادك قائم , يجمعك به الحب في الله , على غير أرحام ولا منافع , يذكرك بالخير ليل نهار , ويدعو لك بكل خير الواحد القهار
لم يبعده عنك خلاف رأي , ولم ينسيه إياك تقلب سعي , وحاله معك دوما في الخير في ازدياد , ويسأل الله أن يجعل صحبتكما فرحا يوم المعاد , فبه فاستمسك , فهو نادر من النوادر , وعزيز على كل شاكر ... فلتبادل إحسانه بالإحسان , ولتبادل خلقه بالفضل والإيمان , قال سبحانه :" الأخلاء يؤمئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين "