وبعد انقضاء شهر رمضان الكريم وفي مثل هذه الأيام من كل عام تأتي أيام عيد الفطر المبارك الذي يأتي عقب الطاعات من صيام وصلاة وتلاوة للقران وصلة الأرحام وصدقات السر والعلن , فحُق للمسلمين أن يفرحوا بأن أتم الله عليهم طاعتهم ويسألوه سبحانه أن يتقبلها منهم وأن يعيدها عليهم أعواما عديدة وأزمنة مديدة .
لكن عددا غير قليل من الناس وخاصة من الشيوخ كبار السن ينتظرون هذه الأيام بحلول المناسبات كيوم العيد لكي ينالوا قسطا من السعادة التي ابتعدت كثيرا عنهم , ويحاولوا أن يتلمسوا لحظات من سعادة – حتى لو لم تكن حقيقية أصيلة – ويحاولون أن يرسموا بسمة على وجوههم ابتهاجا بهذه المناسبة , رغم أنهم قد يوفرون لغيرهم الكثير من أسبابها لكنهم رغم ذلك يجدونها تأخذ في الابتعاد عنهم يوما بعد يوم , ويزداد يقينهم – وأنا منهم ومعهم- بأن السعادة المنشودة والمرجوة صارت أصعب في طرق الوصول لها بمرور الزمن وربما يشعر أكثرنا أنها باتت ذكرى غالية لا سبيل لاستعادتها مرة ثانية.
فلم يكن هذا بالطبع أول عيد يمر علينا فقد عشنا قبله أعيادا كثيرة , عشناها وتمتعنا بها ونحن صغار بجهلنا الطفولي المحبب قبل أن ندرك أن تقدمنا في الحياة يخصم دوما من رصيدنا من الفرحة والسعادة , والآن يعيش أكثرنا نفس المناسبات والأعياد ونحن كبار على أطلال أيام مضت وذكريات خلت , فَرُحنا ننقب عن الفرحة والسعادة الغائبة أو المفقودة في أعين ووجوه من نحب , فنتلمسها في نظرة ابن أو حفيد يفرح بلعبة جديدة مرتديا الملابس الزاهية فرحا بها أو ربما ينام محتضنا لعبته أو ملابسه الجديدة بعد أن أنهكه السهر , فلم يكن يريد أن ينام انتظارا ليوم العيد .
وصرنا نبحث عن الباب الآخر للوصول للسعادة , وهو بذل الجهد في إيجاد عوامل الإسعاد لغيرنا لنرتشف من سعادتهم القليل ولنقتبس نظرة فرح وبسمة أمل من صحبتهم وسماع ضحكاتهم ورؤية لهوهم , فصرنا نحرص على إهدائهم اللعب والهدايا والملابس الجديد والنزهات , وصار بعضنا يجمع أبناءه وأحفاده حوله حتى يرى البسمة البريئة على وجوه الأطفال قبل أن يعود إلى عالمه الخاص الذي ضاق كل منهما بالآخر .
وصار معظمنا قريبا جدا من عدة تساؤلات يتمنى أن يجد إجابة شافية عليها : بم يفرح هذا الطفل ؟ وكيف لنا أن نصل لمعشار سعادته التي حرم منها أكثرنا ؟ وهل يمكن أن نصل إلى هذا الشعور ثانية بعد أن افتقدناه عمرا طويلا ؟ ولماذا هذه العلاقة المضطردة بين تقدم العمر وكثرة الأحزان والآلام ؟
ويجد بعضنا ضالته في مشاركة هؤلاء الأطفال من الأبناء والأحفاد لهوهم واستمتاعهم بألعابهم , فينظر إلى ألعابهم فيجدها قد أصبحت معقدة جدا ومختلفة تماما عن ذكرياته في ألعابه التي كان يلهو بها وهو طفل صغير , فلم تكن ألعابه إلا مواد بسيطة جدا من الأقمشة أو الأخشاب تجمع يدويا ولا تعني أي شئ لتعكس بساطة أجيال عاشت في راحة وسعادة ربما أكثر من راحة هؤلاء الأطفال وسعادتهم , فيدرك أن الفارق بين الأجيال صار ضخما بما لا يسمح بالجمع بينهما , فلا يجد في ألعابهم وحياتهم وبرامج أيامهم إلا التعقيد والميكنة الآلية فيتحسر على اغتيال طفولة نزعت منها البساطة .
ويعود كل منا لنفسه للحظات فيدرك كم مرت عليه أعياد كثيرة بعد آلام متنوعة للمسلمين , فكنا – جميعا - نحدث أبناءنا ونوصيهم بألا يغالي ولا يبالغ أحد منهم في إظهار فرحته بالعيد مواساة لإخواننا المبتلين في بلدانهم وأوطانهم , فما أكثر مظالم المسلمين والحروب التي شنت عليهم والاعتداءات التي نالت منهم , فكنا نذكر أبناءنا وإخواننا بأن يراعوا عند فرحهم – وهو حق مشروع لهم - مشاعر إخوة لنا , فهذا سلوك الجسد الواحد الذي حثنا عليه النبي صلى الله عليه وسلم في حديثه الشريف في الصحيحين عن النعمان بن بشير رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى شيئا تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى " .
ولكن مرت علينا الأيام ودارت علينا الدائرة, فصرنا نحن في مصر من يضرب بنا المثل , وصرنا نحن من ينادى المسلمون بعضهم بعضا بأن لا يغالوا في إظهار فرحهم بالعيد مراعاة لمشاعرنا , فما أشده من شعور , فليس المعاين كالمخبَر, وليس من رأى كمن سمع .
عشنا الآلام الشديدة المشابهة لكل آلام الأقليات المسلمة في العالم واقعا حيا في مصر , ورأينا غربة الدين وأهل الديانة , فما بين مئات الشباب يقتلون وهم ركع سجد في ليالي رمضان وفي وقت السحر بالذات وهو الوقت الذي ينزل الله إلى السماء الدنيا وينادي أهل الأرض ليتوبوا إليه , بين رجل يقتل ويحرق داخل متجره لمجرد انه متسم بسمة سنة النبي الأكرم , ومسجد يقذف بالقنابل ولآخر يشغل فيه النيران وثالث يغلق بالشمع الأحمر ويعتقل إمامه , رأينا بلادا تسرق منها هويتها الإسلامية ويتعاظم فيها العلمانيون مطالبين بإلغاء كل ما يمت للإسلام بصلة فيها وهي قلب الأمة الإسلامية وحجر زاويتها , ورأينا النصارى وهم يتحكمون في مصير الدولة الإسلامية التي حملت راية الإسلام ونشرته في العالم , ورأينا الأمهات الثكالى والنساء الأرامل والأطفال اليتامى وقد فقدوا أحب الناس إليهم دون ذنب اقترفوه إلا أنهم أرادوا لهذه البلد أن يكون رئيسها حافظا لدين الله ساعيا لإقامة العدل لا يظلم ولا يسمح بالظلم نظيف اليد لا يسرق ولا يفتح بابا لسارق .
فلا شك أن هذا العيد الذي يمر مختلفا لمعظم أهل مصر يشعر فيه الكثير من أبناء العالم الإسلامي بنفس الأحاسيس , فالعالم الإسلامي كله يموج بعضه في بعض , فلا ترى بلدة إسلامية كبيرة أو حتى دويلة إسلامية صغيرة إلا وفيها أزمة مستعرة قائمة أو فيها أزمة موقوتة تنتظر إشارة البدء وكأن العالم الإسلامي كله بات على فوهة بركان متعمد .
ولكني رغم كل هذه الأحاسيس والآلام التي تجري في مصر ومن قبلها في سوريا وبورما والكثير من دول العالم الإسلامي إلا إنني أشعر وكأني أرى أن الأمة الإسلامية مقبلة على حدث قوي ضخم سيغير مجرى التاريخ الإسلامي كله , وأن ما نراه من كل هذا التموج والاضطراب الحادث حاليا لا يدل مطلقا على أن هذه الدماء دماء موت واغتيال , فلا اشعر بها إلا لحظات طلق مؤلمة تصاحب ميلادا لهذا الحدث الضخم , واشعر أنه لا تزال دماء طاهرة غزيرة في الطريق ستنزف وستسيل في الأيام المقبلة .
ولكن حينما يكثر الصراخ وتزداد الدماء غزارة وترتفع الأكف إلى الله ستأتي لحظة ميلاد الحدث الكبير المزلزل الذي ننتظره جميعا , وحينها فقط نستطيع أن نفرح جميعا بالعيد الحقيقي الذي سيجمعنا جميعا في كيان واحد " أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ " .