خواتيم هود
29 شوال 1434
د. خالد رُوشه

النورانية التامة , والمنهجية الكاملة , والديانة الخاتمة , التوحيد والعبودية , والواقع والغيب , والنصح والتوجيه والبيان , الحال والمستقبل , طريق الفوز والفلاح , علاجات القلوب وأدويتها , طرائق التعامل مع الناس , السبيل إلى النجاة في الدنيا والآخرة ... كلها وأكثر منها نجدها بكل وضوح في خواتيم سورة هود

القرآن كله بيان وشفاء , " مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله "

وسورة هود لها خصوصية خاصة مما فيها من الهدى والخير العميم , فعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : قَالَ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه : يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ شِبْتَ ، قَالَ : شَيَّبَتْنِي هُودٌ وَالْوَاقِعَةُ وَالْمُرْسَلاتُ وَعَمَّ يَتَسَاءَلُونَ وَإِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ
رواه الترمذي في تفسير القرآن باب سورة الواقعة (3219) ، ورواه الحاكم وابن مردويه ، وصححه الألباني في صحيح الجامع (3723)

وعن عقبة بن عامر وأبي جحيفة قال صلى الله عليه وسلم : " شيبتني هود و أخواتها " رواه الطبراني وصححه الألباني في صحيح الجامع (3720)

وعن أبي بكر رضي الله عنه قال صلى الله عليه وسلم : شيبتني هود و أخواتها قبل المشيب " رواه ابن مردويه وصححه الألباني في صحيح الجامع (3721)

يقول المناوي : " ( شيبتني هود ) أي سورة هود ( وأخواتها ) أي وأشباهها من السور التي فيها ذكر أهوال القيامة ، والعذاب , والهموم والأحزان إذا تقاحمت على الإنسان أسرع إليه الشيب في غير أوانه " فيض القدير

وروى القرطبي عن أبي عبد الرحمن السلمي أن الذي شيبه منها قوله: " فاستقم كما أمرت " , ولما فيها من ذكر الأمم، وما حلَّ بهم من عاجل بأس اللّه

وقال : وأما سورة " هود " فلما ففيها ذكر الأمم، وما حل بهم من عاجل بأس الله تعالى، فأهل اليقين إذا تلوها تراءى على قلوبهم من ملكه وسلطانه ولحظاته البطش بأعدائه، فلو ماتوا من الفزع لحق لهم، ولكن الله تبارك وتعالى اسمه يلطف بهم في تلك الأحايين حتى يقرءوا كلامه.

وقال ابن عباس - رضي الله عنه -: "ما نزل على النبي - صلى اللّه عليه وسلم - آية كانت أشق ولا أشد من قوله - تعالى -: {فاستقم كما أمرت}، ولذلك قال - صلى اللّه عليه وسلم - لأصحابه حين قالوا: أسرع إليك الشيب قال: ((شيبتني هود...))"

و لما فيهن من التخويف الفظيع، والوعيد الشديد، لاشتمالهن مع قصرهنّ على حكاية أهوال الآخرة وعجائبها وفظائعها، وأحوال الهالكين والمعذبين، مع ما في بعضهن من الأمر بالاستقامة وهو من أصعب المقامات، وهو كمقام الشكر، إذ هو صرف العبد في كل ذرة ونفس جميع ما أنعم اللّه به عليه من حواسه الظاهرة والباطنة إلى ما خلق لأجله من عبادة ربه بما يليق بكل جارحة من جوارحه على الوجه الأكمل

والمقصود من قوله: "شيبتني" ظهور آثار الضعف عليه قبل أوان الكبر، وليس المراد منه ظهور كثرة الشعر الأبيض عليه؛ لحديث أنس قال: "ما عددت في رأس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولحيته إلا أربع عشرة شعرة بيضاء"6، وذلك لما في هذه السور من أهوال يوم القيامة والمثلات (أي: العقوبات) النوازل بالأمم الماضية؛ أخذ مني مأخذه حتى شبت قبل أوانه.

واخص القارىء هنا أن يتدبر في خواتيم تلك السورة العظيمة ويفهم من معاني آياتها الأخيرة , ويقارن عمله وسلوكه من المطلوب منه والمأمور به والمدعو إليه ويرى مقامه من الإيمان ويراجع نفسه وقلبه .

قال ابن القيم - رحمه الله -: "الذي شيب من هود - صلى الله عليه وسلم - {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلاَ تَطْغَوْاْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}7؛ لأن الاستقامة لا تكون عن هوى وإنما تكون الاستقامة على حسب ما أمرت، ولا يستطيع الإنسان أن يستقيم كما أمر إلا بعد أن يعلم بماذا أمر، ثم بعد ذلك يستقيم عليه، والاستقامة عزيزة، ولذا كان عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يقول: "استقيموا، ولا تروغوا روغان الثعلب".