داء التشتت !
29 جمادى الثانية 1435
د. خالد رُوشه

[email protected]

بدا كانه أشعث اغبر , مكفهر الملامح , عابس الوجه حزينا , كأنما جاء من جنازة !

وبعد برهة وجوم اعترتني , بادرت بسؤاله عن حاله , وعن ذلك الوجه المتغير والحال الشاكية , فرد قائلا : إنه التشتت !

قلت وما قصدك بالتشتت ؟!

قال : تمر بي الايام بغير هدف ظاهر , ولا طريق واضح , ولا أمل مرجو , ولا إنجاز معتبر , مشتت الذهن , متخبط في حياتي , لا أكاد استطيع أن أجد نفسي !

هذه الحالة التي يشكو منها هذا الشاب , منتشرة بشكل كبير , خصوصا بين طبقة الشباب , وكذلك بين طبقة المثقفين , وهما طبقتان مهمتان للبناء والرقي .

سبب هذه الحالة عادة , هو ضعف الإنجاز , لشخص يتسم بنفس طموحة , وطاقة كبيرة , نتيجة سوء التوجيه , وفقدان الناصح , وذوبان الهدف .

إنها ثغرة تربوية واسعة في جدار الأجيال من حولنا , علينا أن نولي الاهتمام نحوها , دراسة وتشخيصا , وعلاجا .

في أحيان كثيرة نكتفي من الشاب بكونه حسن الظاهر , جيد السمت , هادىء الانفعالات , خصوصا إذا كان سائرا في دراسته على وجه طبيعي غير متعثر , وربما اعتبرناه بهذه الصفات نموذجا مناسبا للشاب الذي نريد !

يخفى علينا من هذا الشاب أمواج هادرة تموج في نفسه , وترددات طاغية تتردد في عقله , وأفكار مشتتة تلف في مخيلته تجعله يفقد توازنه , ويفتقد الحكمة التي يجب أن تقود سلوكه , والبصيرة التي تضىء طريقه .

قبل أيام لقيني أحد هؤلاء الشباب , حسن الظاهر , هادىء الطباع , يبدو مثقفا , عرفت بعد ذلك أنه في نهائي أحد الكليات العليا , كان يبدو عليه التوتر , قال إنه يسعى لمقابلتي منذ ايام ...

بعد حديث مسهب , يملؤه التلعثم والحكاية , وأنصاف الابتسامات وأنصاف الجمل الواضحة , عرفت أن قصته تتلخص في اعجابه بفتاة , غير متدينة , من طبقة غنية .

الأمر حتى هنا لا يبدو فيه شىء يدعو إلى الحكاية , إلا أن باقي القصة هي وجه الاستدلال فيما أريد , فالشاب يعلم أنها غير مناسبة له على شتى المستويات , ويعترف بذلك , قائلا إنها لا تناسبني ابدا , لا اجتماعيا , ولا دينيا و ولا خلقيا !

إذن فماذا يجعلك متعلقا بها ؟ وما الذي يدعوك للانشغال بها ؟ وما شبب توترك هذا وقلقك الذي أراه ؟

لقد كان جوابه على هذا كله : أنه يحبها , وأن صورتها لا تكاد تفارق مخيلته !... وأن هذا منذ سنين وهو يكتمه , حتى فاض به !

فما الذي أهوى بهذا الفتى في تلك الهاوية , ولماذا لم يجد ناصحا له منذ البداية , وكيف سيطرعليه هوى نفسه حتى خالف ثوابته ؟!

شاب آخر لقيني بمثل توتر الأول أو اشد , لكنه زاد عليه لمحة من خجل اعترت وجهه , جعلته يقص شكواه وهو ينظر إلى الأرض , فهو يشكو من إدمانه ما يسمى بالعادة القبيحة , رغم سمته الهادىء , وثقافته , ومستواه الاجتماعي المتميز , وما يبدو عليه من صفات حسنة !

مشكلة الشاب لا تقتصر على أزمة العادة القبيحة فحسب , لكنها كادت أن تدمر حياته بما يحيطها من تتبع للإباحية , وضياع للأوقات , وسهر , وعدم إنجاز , وخمول وشعور بالمرض !
فما السبب وراء إدمان هذا الشاب تلك العادة ؟ ولماذا لم يمنعه معرفته لضررها من أن يدمنها ؟ ولماذا لم يسع لعلاجها منذ سنين ؟!

شاب ثالث , شكواه من نوع آخر , فهو ذكي مثقف , محب للعلم , غير أنه مشتت بين اوراق الكتب العلمية , لا يكاد ينتهي من كتاب أبدا , بل يقرا ههنا ثم يتنقل , ثم يمل , ثم يغير , ثم يمل ..وهكذا

وهو في كل ذلك لا يشعر بشىء من الإنجاز فيما يتعلم , ولا يدري مواصفات الطريق الذي يسير فيه و إلى اين ومن أين , وما هي علامات نجاحه وفشله !

فما السبب وراء عدم الإنجاز لذلك الشاب , وماذا يجعله مشتتا بهذا الحال ؟!

هذه الأمثلة وغيرها كثير يجمعها داء التشتت , بل إنني قد رأيت هذا الداء في وجه بعض الدعاة , وبعض المربين و لا يستطيع أن يخفيه , بل يطغى على محياه ليل نهار .

إننا بحاجة إلى مراقبة ومتابعة تربوية منذ بداية الطريق , يتابعنا فيها الابوان بعلم وخبرة ودراية , ثم يتابعنا كذلك مربون ناصحون , ومعلمون نابهون .. يأخذون بأيدينا نحو الصوابية .

الآباء والأمهات عليهم واجب كبير في اكتشاف مواهب الأبناء , وتوجيههم الوجهة الصالحة من البداية , وتشجيعهم على سد ثغرات شخصياتهم , وبناء شخصية جادة , صريحة , تعرف ما تريد وتسعى إليه .

والمربون دورهم الهام يبتدىء بتذليل العقبات النفسية والاجتماعية أمام الشباب , لتستقيم شخصياتهم , ويستطيعون علاج ما يشكون منه من أمراض أو آلام أو عادات سيئة .
المربون يجب أن يفهموا أن دورهم ليس تعليميا فحسب , بل هو توجيهي نصحي علاجي , وهم في ذلك يعتبرون خط المواجهة المهم أمام المستجدات النفسية والاجتماعية التي تنشأ أمام الشباب .

يجب أن يعلم المربي أن النفس الإنسانية مترامية الأطراف عميقة النوازع , كثيرة الحنايا , فلا يجب أن يكتفي منها بظواهر , ولا يجب أن يطمئن منها بسمات , بل عليه أن يسعى للإبحار في عمقها , للاطمئنان عليها من الأمراض والشكاوى .

تحديد نوعية الشخصية و والوقوف على مثاليها , وتوصيف أمراضها , والبحث عن علاجها , ثم بلورة أهداف لها , ثم دعمها في سبيلها لهدفها المحدد هو جوهر العملية التربوية المرجوة , والتهاون أو التغاضي عن أي خطوة من تلك الخطوات قد يورث أخطاء لا حصر لها , ربما تبدو بعد فترة في صور سلبية مؤلمة .

يجب أن نُعلم شبابنا كيف يقولون لا لبعض المواقف والخيارات , وكيف يصرون على اتخاذ بعض الاختيارات التي يجدونها متلائمة مع سبيلهم وطريقهم وقدراتهم .

يجب أن نُعلمهم أن الإيمان يجب أن يمس القلب وينطلق منه و وأن كل سلوك لا ينطلق من القلب فهو أجوف , وأن القلب هو قائد حركة الإنسان , وأن القلب يجب أن يكون سليما من الشبهات والشهوات , وإذا سقطت به زلة أن يسارع إلى التوبة والأوبة منها .

يجب أن نُعلمهم أن الإيمان هو جالب السكينة والطمأنينة في النفس , وأن التوكل على الله سبحانه هو الباعث على الثقة في الحركة والأداء .

وأن الحكمة يلزم أن تكون ضالة المؤمن دوما , وأن مشاورة الخبراء واستخارة الخالق سبحانه اساسية في كل خطوة .

وأن الدعاء رابط أصيل وحبل متين يربط أحدنا بربه عز وجل ... وأنه سبحانه قريب مجيب .

قال النبي صلى الله عليه وسلم :" " من كانت الآخرة همه جعل الله غناه في قلبه و جمع له شمله و أتته الدنيا و هي راغمة ، و من كانت الدنيا همه جعل الله فقره بين عينيه و فرق عليه شمله و لم يأته من الدنيا إلا ما قدر له " أخرجه الترمذي وابن ماجه .