البسمات النازفة
12 شوال 1435
د. صفية الودغيري

[email protected]

جاءت أيام العيد ورحلت ..
ولم تحمِل معها تلك الفرحةَ الخافِقَة بنبضاتِ السَّعادة، ولم تُرْسِل نداءَها الشَّجِي الصَّادِح على عروشِ القلوبٍ التي أضْناها الانتظار على أعتابِ الحياة المُعتَّمَة بالأحزان، والأيامِ المُلثَّمَة بالسَّواد ..

 

وكيف للفرحة أن تشُقَّ طريقًا معبَّدًا إلى القلوب، والحروبُ ملأَت الأرض من أَدْناها إلى اَقْصاها، وعجيجُ الموتِ قطَّعَ أَقْرانَ السَّحاب وضجَّت منه السَّماء، والقلوبُ تجافَت عن المضاجِع، وتصدَّعَت حَناياها من هَوْلِ ما رأت وشاهدت، فرفعَت أصوتَها مُجَلْجِلةً بنداء الاستغاثة، ونزفَت العيونُ هُطولاً من المَدامِع، سالَت على خدٍّ مَشْبوبٍ بالاحتراق ..
وصرخَت النُّدوبُ الغائِرَة والتَّجاعيدُ المتيبِّسَة بصوتٍ واحد ..

 

هنا شاخَت فرحة الطُّفولة البائِسَة .. هنا شاخَ عنفُوانُ الشَّباب .. هنا ذَوى غصنُ الكهولَة الغَضُّ البان .. هنا خرسَتِ الشِّفاه وخريرُ المياه ..

 

وجثم على الصُّدورِ زفيرُ الأنَّات، وصعدَت أنفاسٌ لاهِثة تنشُد رواحِلَ الآمال، وتمدُّ بصَرها خلف ذاكَ الأفُقِ الملبَّد بدُخَّانِ البَنادِق، فحالَ بينها جسرٌ طويلٌ شاق لا يصِلُها إلاَّ بالخُطوبِ والرَّزايا، وظلَّت تسْتجْدي من الحياة خلاصًا وانْبعاثًا يُعيد للذَّاكرة وهَجًا وتاريخًا مجيدًا، ويزُفُّ إليها انتصارًا عظيمًا يمسح عنها سِجلَّ الهَزائِم والانْكسارات، ويضمِّد جراحَها التي تمْخضُ في الأرحام، ويرتِّق مسامات آلامها التي لا تفْترُ تتَّسِع اتِّساعَ محيط أفُقِها الرَّحْب، وتمتدُّ امتدادَ أوجاعِها التي كُتِبَ عليها أن تولَد يتيمة فلا تجدِ أيدٍ حانِيَة عليها، ولا صدورًا رحيمة بها، ولا رشَّاتِ قَطْرٍ ترطِّب مآقيها الكالِحَة، ولا ملاذًا تلوذُ به من الدَّمار الذي عشَّش في أركانها وقطَّع أطرافَها، فأضْحَت حياتها خلاءً وحطامًا، ورُفاتَ اشلاء ..
 فهاجرت قَسْرًا أرضَها ومَساكنَها وخِيامَها، وودَّعت ذكرياتها ورحلت إلى حيث تعيش غربتَها ومَنْفاها بلا وطن ..

 

وليتها وجدت خلاصًا أو انْعِتاقًا يهبُها سلامًا وأمانًا، بل رحلت حاملةً همَّها ومتاعبَها المُضْنِية، وشقاوةَ الحياة وغُربتها اللاَّذِعَة، ورائحة الموت كأنَّها صرٌّ أصابَت كلَّ حرثٍ فأهلكَته، أو كأنَّها الهَدْيُ عُلِّق كالثرَيَّا فوق نحورِها، ففي كلِّ أرضِ العروبة والإسلام حربٌ مشتعِلَة، وفتنٌ نارُها منْسَعِرَة ..

 

وعلى الرغم من تلك المَذابِح العظيمة والشَّدائِد والمِحَن المتَتابعَة، تأبى الأرواح المؤمنة الطَّاهرة إلا النِّزال حفظًا للكرامة، ولعزَّة الإسلام، وانْتصارًا للعدل والحق، وصوْنًا للشَّرفِ والعِرض ..
وأجسادُهم المضرَّجَة بالدِّماء تأبى الاسْتكانة والخُنوع، وجراحهُم النَّازِفَة تزيدهُم قوّةً مضاعفة، وطاقةً فوَّارة، وصلابةً، وصمودًا،  وإِباء ..
وتراهم أبطالاً شِدادًا يواجهون أعداءهم  في ساحاتِ القتال، لا يهابون الموتَ بل الموتُ من يهابهُم، فقد تربَّوا على الكرامة والإيمان، ونشؤوا في عرينِ البطولة والشَّجاعة  وصاروا أُسودًا في صورة إنسان، لا يجِدُ الخوفُ إلى قلوبهِم طريقًا، فقد غذَّت أحشاءَهُم فسائِلُ الآمال، وسقاهُم النَّزف بسِقاءِ الدِّماء، فرَبت أفراحهُم وأَزْهَرت وسط عتمة النكبات  ..

 

ومضَوْا في طريقهِم الوَعْر يحملونَ أكفانَهُم على أكتافهِم، ولا يُبالون بما ضاع من مكتسباتهِم ومدَّخَراتهِم، ولا يهابون ما يهابُه مَن دونهُم منزلةً،  ممَّن سقطوا في مراتعِ الحياة المنعَّمة، فلبِسوا لها جلدًا من الحرير سلخهم عن جلدهم البشري وقيمهم الإنسانية ..
بل تجدهم يرتفعون بقيمهم ومكارم أخلاقهِم الشَّريفة عن أطماعِ الحياةِ المُترفَة والعيش الرَّغد، والملذَّاتِ التي ضجَّت من بطونٍ لا تشْبع، قد زادها الجشعُ استبدادًا وطمعًا، فهانَت عليها حرماتُ الأعياد، كما هانت عليها حرماتُ الأعراض ..
وارتدَتِ الأعياد صَحْوَ الحياة البئيسة بالأَدْناسِ والأَكْدار، وسُكْرَ الموتِ الذي يعْتام الأرواحَ عن كَثَب، واشتدَّ سعارُ الحرب فأسْجى الظَّلام سَرابيلَه حِدادًا تلو الحِداد، ينْعي أرواحًا اسْتشْهَدَت وأشواقُها معلَّقَةٌ على مشانقِ الجُناة، وآحلامُها منصوبةً على أعمدةِ الآلامِ تفيضُ أوجاعًا وهمومًا تلو الهموم، تولَدُ  وتموت كدًّا وكدْحًا ..

 

فأَضْحت حياتهُم غروبًا دائمًا، تكْتحِلُ منه العيونُ بريقًا لليلٍ يوشِك ان لا ينْجلي، وتقْتبسُ الوجوهُ من القمر والنُّجوم ضياءًا، ينْسكِبُ على صفحاتِها التي كُتِبَت عليها الصُّفرة والكُدرة كما كُتِبَ على الزُّهورِ الذُّبول ..
وكيف للزهور أن تتفتَّح في أعيادٍ تملَؤُها الحروب، وكيف للبراعم أن تزْهِر في أعيادٍ نضَبت من مجاريها قُطارَةُ الحبِّ والسَّلام  ..

 

وأيُّ سلامٍ تبقَّى .. بعد كلِّ هذه المخاضات والحروب التي قَسمَت ظهورَ العباد، ولَوَت أعناقَهُم، وطَوتْهُم طَيَّ السَّحاب، وسوَّدَت صحائفَهُم تسْويدًا، فما عادت للأقلامِ كلماتٌ تشرقُ بالمعاني، إلا طَقْطَقات أعوادٍ  صَهَرتها المَواجِعُ تلوَ المواجِع، ففتَّقَت أكبادَها وصارت قشًّا، ورمادًا، ونفاية قِيَم، وخَلَت من كلِّ معنى يريحُ الخواطر إلا معنى الدم والرصاص ..
والشُّرودِ في مراتعِ الأطماع المستبِدَّة بالذّوات العارِيَة عن الدين والفضيلة والإنسانية، والانْصِياع لرياح الأهواء والملذَّاتِ الهوْجاء تجرّهم اتِّجاه الظل ..

 

وأيُّ سلامٍ تبقَّى .. والحياةُ صارت تلفِظُ أنفاسَها كلَّ يوم، وتخْلعُ عن الإنسان ممتلكاته، وتسْتَنْزِفُ طاقاتِه، وتشدُّ وِثاقَه بقيود العبودية، وتستغِلُّ ثرواته وثروات أرضه، وتغتصِب حرِّيته، واسْتقلالَه، وكرامَته، وهويَّته، وخارطته، وكل ما يعتزُّ به ويفتخر ..
وتَدْفَعُه دفعًا حثيثًا حيث نهايته ومثواه، وقد نالَ منه الذُّل ما ينالُه الدُّود من جسمٍ ميِّت، ينخرُ عِظامَه نخْرا، ويسوسُه من جلدِه ولحمه، فلا يترك له إلا هيكلاً للإنسانية التي شقَت بالحروب، ومُسِخَت مَسْخًا مٌشوَّهًا لا ينتسبُ للكرامة الإنسانية بأيِّ نسبٍ أو افتخار ..
وأيُّ سلامٍ تبقَّى .. واعيادُنا ما عادَت أعيادًا، ولا أفراحُنا عادت أفراحًا..

 

 وأيُّ سلامٍ تبقَّى .. ومسرَّاتُنا تخْتبِئ وراء حُجُبٍ من الآلام، تغْرِفُ منها الأرواح مُدودًا تلو المُدود، ويرسِلُ عليها الحزنُ سِجافَه الكثيف، ويُسْدِلُ الموتُ خِباءَه المعَتَّم..
فلا يظهر بعدها للعيد إلا وجهٌ ملثَّمٌ ومُمْتَلِئ بالقُروح والكَمَد، قد انصهَرَت على سطورِه البسمة انْصِهارَ الجليد في حرِّ القَيظ ..

 

إلا أن سطْوةَ الحروب أشدُّ من حرِّ الشمس والقيظ، تسلِّط سياطَ عذابها على رقابِ العباد بلا رحمة، فتخْبو نضارةُ الوجوه، وتفقد ما كان لها في سالفِ عهودِ أيامِها الزَّاهِرَة، حين كانت للأفراح مسرَّات، وللفصول ربيعًا وأزهارًا، وللمواسِم أعيادًا وحُرماتٍ تُصان   ..