كاشفات المحن !
5 محرم 1436
د. خالد رُوشه

لا تستطيع أن تعلم حقائق الاشياء إلا عند اختبارها , وفتنة المعادن تخرج خبثها , وتبقي على ثمينها .

   

ولا تستطيع أن تعلم حقائق الناس إلا في المواطن المختلفات , وأهمها في مواطن البلايا والمشكلات .

 

فلطالما ظهر بعضهم بوجه غير الوجه الذي تعرفه به إذا مر به بلاء , ولطالما تغيرت الوجوه ونكصت الخطوات على الأعقاب في المحن والشدائد .

 فكم من صديق أنكر صديقه عند شدته , وتركه يعاني الآلام رغبة في مصلحة ذاتية أو خوفا من مضرة مظنونة .

 

وكم من رجل ظنه الناس وقورا حييا إذا به يسقط في مستنقع العورات وموبوءة الشهوات عندما عرضت عليه الفتن .

 

وكم من امرىء ظنه الناس عالما عاملا , إذا به ينقلب حليفا لكسبه فيلوي عنق الكلمات ويدنس نفسه بممالأة الباطل , فلا يرفع للحق راية , ولا يقيم للدين قائمة مادام ذلك قد تعارض مع مصالحه الشخصية ومنافعه الدنيوية ومادام كان في قولة الحق له اختبار وفي موقف الصدق عنده شدة وابتلاء !

 

إن معادن الناس تظهر في الشدائد , تبين حقيقتها , وتجلي كامن صفاتها , فقد تعرف انسانا لفترات طويلة , ولايبين لك منه صفاته الحقة , فإذا مرت الشدائد ظهرت صفاته وبانت علاماته , فلكأنما تكشف بعد اختفاء وتعرى بعد غطاء !

 

والشدائد تقرب المؤمنين إلى ربهم , وتباعد المزورين والكاذبين عنه سبحانه .

 

 فالمؤمن يسارع توبة واستغفارا , وإنابة وإصلاحا , وردا للحقوق , وتبتلا لله سبحانه رجاء تخفيف الشدة وإذهاب الغمة .

 

 والكاذب يسارع إلى الدنيا يطلب منها فك الشدة , ويتعلق بالأسباب , وينسى ربه سبحانه , فلا تزيده الشدة إلا نفورا , قال سبحانه : " ومن الناس من يعبد الله على حرف فإن أصابه خير اطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه خسر الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين "

 

 والشدائد منقيات , يقول صلى الله عليه وسلم " لايزال البلاء بالمؤمن حتى يفارق الدنيا وما عليه ذنب" .

 

والله سبحانه طيب لايقبل إلا طيبا , فيسلط الشدائد على المؤمنين لتفتن صفاتهم , وتنقي حقيقتهم , فيذهب الخبث , ويبقى الطيب , فيلقون الله طيبين , ومن وافته منيته من الموحدين قبل أن يتم توبته , تمت تنقيته قبل دخول الجنة , فيدخلون الجنة بعد التنقية والتصفية فيقال لهم عندئذ : " سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين "

 

 وكما أن الشدائد كاشفة لمقدار الخير في الدين , فإنها كاشفة في أمور الدنيا , فالشدة تظهر الصديق الحق , وتبين فضيلة المرء , فكم من مدع لفضيلة إذا جاءت الشدائد اسفر عن وجه جبان قبيح , وأناني خسيس , وكم من كريم قليل الحديث عن نفسه , تراه في الشدائد أسدا هصورا , ومروئيا عظيما , مؤثرا الخير على نفسه وباذلا للمكرمات حتى لو كان حاله ضيقا

 

حتى إني وددت أن لا تكون صداقة إلا بعد شدة واختبار , ولا أخوة إلا بعد عشرة واختيار , حتى لا نسمع بالصدمات النفسية في الاصدقاء والإخوان , تلك التي نسمع عنها كل يوم !

 

والشدائد ايضا كاشفة لقيمة المرء أمام نفسه , فيعلم من نفسه كم هو صادق مع نفسه ومع ربه , وهل هو مدع لايلبث أن ينكسر في المشكلات وينقلب على عقبيه فيها أم أنه صادق مع نفسه واضح معها , ويعلم قدر ثقته في مبادئه وقيمه , ويعلم مكامن الخلل عنده وأماكن الثغرات في شخصيته .

 

والشدائد تقوي النفس , وتقوم الظهر , وتثبته , وتجعله صلبا في مواجهة تقلبات الدنيا , فإن صبر المرء فيها وتوكل على الله ربه , وأخذ بالاسباب , وداوم وصلا بالرحمن الرحيم ذكرا ودعاء والتجاء , فما يلبث أن يعود اقوى وارسخ .

 

قال سبحانه : " الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ , فَانقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُواْ رِضْوَانَ اللّهِ وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ"