رحلة الحياة والموت هي الرحلة التي كتب الله سبحانه أن يعيشها خلقه , فهو سبحانه الذي وهب الحياة , وهو سبحانه الذي قضى الموت على الأحياء , " كل نفس ذائقة الموت " , وهو سبحانه المتصف بالحياة الدائمة التي لا تأخذها سنة ولا نوم , ولا يعتريها موت ولا نقص .
والموت والحياة خلقهما الله سبحانه , وجعلهما محط ابتلاء واختيار للعباد , " الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم ايكم أحسن عملا " .
وقد حيرت فكرة الموت فلاسفة البشر , وأعجزت كل من سعى لفهم أسرارها , إلا من تواضع لله ربه , وتفهم فكرة الموت بحسبما جاء في كلام الله سبحانه وعلى لسان رسله عليهم السلام , وعلم أن الروح من أسرار الله في خلقه , " ويسألونك عن الروح قل الروح من امر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا " .
والموت نراه بيننا – كما نرى الحياة – حقا لا شك فيه ولا مراء , وحقيقة قد أقر بها كل الخلق , وخضع بها كل الجبابرة , واستذل بها كل متكبر عنيد , لذا قد قضاها الله سبحانه على كل من في الأرض ليعلموا قدر ضعفهم وانعدام حولهم وزوال قدرتهم , كما يعلموا عظمة ربهم وقدرته وقيوميته سبحانه فقال " كل من عليها فان "
لذا فقد أمر الإسلام بتذكر الموت , والتدبر في اثره , والاستعداد له " حتى إذا جاء أحدهم الموت قال رب ارجعون لعلي أعمل صالحا فيما تركت .." , " وأنفقوا من ما رزقناكم من قبل أن يأتي أحدكم الموت فيقول رب لولا أخرتني إلى أجل قريب فأصدق وأكن من الصالحين , ولن يؤخر الله نفسا إذا جاء أجلها والله خبير بما تعملون " , بل إن النبي صلى الله عليه وسلم قد أمر بتذكر الموت والتدبر فيه كما سيأتي .
فلا يمكننا أن نقصر فكرة الموت على مجرد التذكرة والموعظة كما يفعل كثير من الوعاظ , فيتحدثون عن الموت بغية التأثير في الناس بالأجواء التي يمكن أن تكون محيطة به , من فراق للصحبة والمتاع , وسكون في التراب , ورحيل عن الحياة , فيستدعون الدمع الذارف , والنحيب والبكاء على أنفسهم أو أقاربهم الذين قد فارقوهم وتركوهم فحسب , ليظل التفكر في الموت قاصر على المواقف المؤقتة , والمصائب المؤثرة .
بل إن فكرة الموت في الإسلام فكرة منهجية ورؤية الإسلام للموت رؤية متكاملة , وحديثه عن الموت حديث عن مفترق طريق وبرزخ بين سبيلين أحدهما خالد والآخر منته .
والأسباب وراء أمر الرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم بتذكر الموت ليست قاصرة على مجرد الاتعاظ والتذكرة , بل لأن فكرة الموت تجمع حولها كثيرا من المعاني الإيمانية والمبادىء الحياتية والدوافع السلوكية التي قد تغير طبيعة حياة الإنسان من لهو وعبث إلى قيمة وأثر .
فالحياة في نظر الإسلام هي هبة ربانية من الله سبحانه للناس , خلقهم فيها واختبرهم وأمرهم ليصلحوا بالقول والعمل , ويعمروها بالصلاح والعبودية , بل إن مافي الأرض جميعا هو خلق الله سبحانه :" والله خلقكم وما تعملون " .
والأبناء والأحفاد والذريات أيضا هبة ربانية :" يهب لمن يشاء إناثا ويهب لمن يشاء الذكور أو يزوجهم ذكرانا وإناثا ..الآيات " .
والمال والمتاع أيضا منه سبحانه وتعالى :" وما بكم من نعمة فمن الله " , " وأنفقوا من مال الله الذي آتاكم " .
فإذا قضى الله سبحانه الموت على أحد فإنا له وإليه راجعون , والعبد عبده , والخلق خلقه والأمر أمره لا إله إلا هو , فهو يهب الحياة والنعمة , وهو سبحانه يقبض الروح ويوقف الإنعام إذا شاء .
فتأتي فكرة الموت ههنا لتؤكد على ذلك المعنى تأكيدا يضطر الإنسان المؤمن إلى الاستشعار بالفقر والضعف الكاملين تجاه ربه سبحانه , والحاجة التامة له عز وجل ولإنعامه وعطاياه , فيرجوه ويسأله , ويحسن عمله ويطهر عبوديته .
كذلك فلا لذة دائمة في الحياة الدنيا يمكن أن يركن إليها الإنسان , وإنما اللذات منتهية وزائلة , فاللذة الحقة هي لذة المتاع في الآخرة , وإنما لذة الدنيا في استشعار معنى العبودية في كل شأن من شئونها والركون إلى جانب الله سبحانه والرضا بأقداره , لذلك أمر النبي الأكرم صلى الله عليه وسلم بتدبر الموت أيضا من هذه الجهة فقال : " أكثروا من ذكر هاذم اللذات " .. وذكر هاذم اللذات يقلل الارتباط بالدنيا ويقوي الارتباط فيما عند الله ..
ومن ثم كان هذا المعنى من أهم ماأكد عليه الرسول صلى الله عليه وسلم من فكرة الموت , فيروي البخاري أن ابنا لابنته زينب رضي الله عنها كان يحتضر , وأنه صلى الله عليه وسلم أرسل إليها أن :" إن لله ما أخذ وله ما أعطى وكل شيء عنده إلى أجل مسمى فاصبري واحتسبي " , والمعنى ههنا واضح تمام الوضوح والفكرة الإيمانية تتجلى بقوة في هذا المعنى , ومن أجل ذلك نجد المرأة الصالحة – أم سليم – توصل لزوجها أبي طلحة نفس الفكرة بصورة مبسطة جدا لما مات ابنه الذي يحبه كما أورد مسلم في صحيحه :" قالت: يا أبا طلحة أرأيت لو أن قوما أعاروا أهل بيت عارية فطلبوا عاريتهم ألهم أن يمنعوهم؟ قال: لا، قالت: فاحتسب ابنك .."
وفكرة الموت في الإسلام كذلك فكرة لا تقطع الحياة عن الآخرة كما يظن كثير من الناس , فيعتبرون الموت انقطاعا تاما وفراقا كاملا , بل إن الموت في الإسلام هو حاجز وممر بين الحياة الدنيا والآخرة , بل إن بعض الألفاظ الشرعية في وصف الموت تشعرك أنه وكأن هناك دارين بينهما حاجز وممر , أحدهما الدنيا والآخر هو الآخرة وممرهما هو الموت , فيسمى الموت عندئذ بالبرزخ , ولفظة البرزخ أعم من القبر , فكل ميت سواء حرق أو غرق أو غيره فهو في برزخ , يقول ابن كثير : ولو أحرق وذري في الهواء فهو في برزخ، إذ يصف أهل اللغة معنى البرزخ بأنه " الحاجز والممر " , فهما طريق واحد وحسبة واحدة وسبيل متصل .
والموت في الفكرة الإسلامية أشبه بمصفاة للخير عند المؤمنين الصالحين, فهم لا يفارقون صلاحهم ولايتركون الخير الذي قدموه ولا ينقطعون عن الهدى والفضل , إنما الذي يفارقهم هو تبعة الابتلاء الحياتي, وثقلة الجسد الدنيوي , ومسئولية التكاليف التي سيسألون عنها , أما المتاع الصالح فلهم مثله وخير منه , فالزوجات الصالحات العابدات , والذرية الصالحة الطيبة معهم في الآخرة ,:" والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم .." , وكل متاع كريم في الدنيا لهم وأفضل منه في الآخرة :" فلا تعلم نفس ماأخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون "
من أجل ذلك كان قول النبي صلى الله عليه وسلم عند مسلم وغيره :" من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه " , قال النووي : " قالت عائشة فقلت يا نبى الله أكراهية الموت فكلنا يكره الموت قال ليس كذلك ولكن المؤمن اذا بشر برحمة الله ورضوانه وجنته أحب لقاء الله فأحب الله لقاءه وأن الكافر اذا بشر بعذاب الله وسخطه كره لقاء الله وكره الله لقاءه , هذا الحديث يفسر آخره أوله ويبين المراد بباقى الأحاديث المطلقة من أحب لقاء الله ومن كره لقاء الله ومعنى الحديث أن الكراهة المعتبرة , هي التى تكون عند النزع فى حالة لا تقبل توبته ولا غيرها فحينئذ يبشر كل إنسان بما هو صائر إليه وما أعدله , ويكشف له عن ذلك فأهل السعادة يحبون الموت ولقاء الله لينتقلوا إلى ما أعدلهم ويحب الله لقاءهم أى فيجزل لهم العطاء والكرامة وأهل الشقاوة يكرهون لقاءه لما علموا من سوء ما ينتقلون إليه ويكره الله لقاءهم أى يبعدهم عن رحمته وكرامته ..