إشكالية العزلة والنفور تجاه المجتمع
21 جمادى الثانية 1437
د. خالد رُوشه

هناك إشكالية مهمة وقعت فيها بعض التيارات في تحديد طبيعتها إزاء المجتمع، فهناك من رأى أنه شيء منفصل داخل المجتمع ، وآخرون رأوا أنفسهم شيئا بديلا عن المجتمع ..

 

 

هذه الإشكالية كانت سببا في بناء نفسية سلبية تجاه المجتمع , وكانت سببا في عدم إعذار المخطىء , والمسارعة إلى كراهيته وخصومته ..

 

 

هناك جانبان لهذه الإشكالية ينبغي إيلاء الاهتمام بهما على المستوى المنهجي التربوي :

 

 

الجانب الاول هو ما يتعلق بالوعي ومناظيره الثلاث ..

 

 

 فإن بناء الوعي الإيجابي يستلزم معرفة صحيحة بالبيئة المحيطة , بيئة التأثير والتأثر وهي المجتمع الحاضن , ومن أهم جوانب هذا المنظور للوعي معرفة طبيعته , وكيفية التعامل معه بما يؤدي للتقارب الثقافي الإصلاحي , والتبادل المعرفي , وتجنب النفور الشعوري المترتب عادة على القناعات والمفاهيم .

 

 

وهناك كذلك منظور آخر للوعي هو الوعي بالذات , وتعاملها في الإطار الجمعي , وكيفية الاقتراب والابتعاد عن الإطار المرجعي في المجتمع الموجودة به , فإن الانطوائية والعزلة الشعورية تؤدي بالضرورة للعزلة الواقعية , ومن ثم للرفض المجتمعي والنفرة التامة منه , مما يؤدي لصعوبة وربما استحالة توصيل الرؤية الفكرية من أصحابها لعامة المجتمع .

 

 

المنظور الثالث للوعي هو الوعي بالظرف والواقع الحاضر , وهو يعني فهم ما يدور في العالم المحيط من تقلبات وظروف مؤثرة , ومن أحداث فاعلة , تؤثر بالضرورة على قناعات افراد المجتمع ومؤسساته , وكيفية معالجة ذلك بالمبادرة بالإعلان عن النفس وطبيعة المشروع الذي يتبنونه وفائدته للمجتمع متماهيه مع مصالحه ومنافعه , وسلميته وتفاعله الشعوري الإيجابي معه .

 

 

 

هذه المناظير الثلاثة تكون رؤية الوعي الإيجابية تجاه المجتمع , فيجب على كل نسق مجتمعي أن يكون لديه خلفية متكاملة عنها للوصول لمستوى الوعي المطلوب  ..

 

 

هذا بالضبط ما افتقده الكثير من التيارات , فإذا بهم قد جهلوا طبيعة بيئة الوعي , واساؤوا في تقييم الذات وعلاقاتها المجتمعية , ثم أخطؤوا في رؤية الأحداث وتقدير كيفية التعامل معها , ففوجئوا بالعزلة تارة وبالتشويه تارة وبمحاولات السحق تارة أخرى !

 

 

إن أي تيار ينشأ في مجتمع ما ويريد أن يصلحه أو ينفعه أو يتعايش معه لابد أن يعايشه على أنه جزء منه غير منفصل شعوريا عنه ولا قيميا , حتى لو خالفه في بعض المفاهيم والمبادىء والخلفيات , فإن أصل الرسالة الدعوية تنبني على نقل المفهوم بأسلوب تحفيزي جيد معبر يدعو إلى مصلحة المدعو والخيرله وتنميته وتقدمه , بل والفلاح له في الحياة الدنيا والآخرة .

 

 

لاشك أن هناك التزاما على المجتمع هو الآخر أن يقبل بأبنائه الذين بدا منهم حسن النوايا في إصلاحه والمشاركة في بنائه والعيش فيه , وأن يكفل لهم الرعاية والنفقة والأمان , أما ما يمكن أن نراه من رفض المجتمعات لبعض التيارات الثقافية والدينية السلمية التنموية المصلحة , بناء على أجندات أيديولوجية , فهو دافع سلبي تجاه المشاركة الشعورية لهؤلاء , ومشجع على حالة العزلة والنفور .

 

 

 

أما الجانب الثاني , فهوما يتعلق بالنفور من أصحاب الذنوب والمعاصي والخطايا في المجتمع :

 

 

فإن المنهج التربوي الذي يبني مفاهيمه على الترفع عن الناس لسلبياتهم أو سلوكيات معينة يقومون بها ويشترط للالتحاق به اشتراطات بذاتها هي في مجملها غائبة وكثير منها مجهول , لايستحق أن يكون منهجا بالاساس !

 

 

إذ المناهج التربوية قائمة على إصلاح النفوس والقلوب , والدعوة إلى العلاج السلوكي والنفسي , ولا يتصور أحد أن يجد نفسه في مجتمع صالح بذاته قبل أن يؤدي اليه دوره المطلوب في دعوته وتعليمه وتثقيفه وحل مشكلاته .

 

 

 

كذلك فإن مراعاة ظروف الناس من الجهل بالأحكام , وضغط ثقافة الانحراف , وضعف مؤسسات الدعوة , هو لازم آخر من لوازم التعامل الدعوي معه .

 

 

 

المنهج التربوي الإسلامي لا يعطي فرصة لادعاء العصمة , فقط من عصمهم الله سبحانه فكانوا هداة البشرية , فلماذا إذن تحصل هذه الرؤية السلبية لأهل المعاصي , وكل بني آدم خطاء ؟!

 

 

 

مجتمعاتنا الحالية كثر فيها الجهل وغاب عنها العلم واغتربت فيها الفضائل , فسقط الناس في حمأة مظلمة من الجهل بدينها وسنة نبيها صلى الله عليه وسلم فكثرت فيها الذنوب واحتل فيها العصاة مقامات وجمعوا الأموال وتقلدوا المناصب وصارت الدعوات إلى الطاعات دعوات قليلة .

 

 

وفي ظل غياب العلم يسقط الناس في الذنب عن غير عمد تارة , وعن سوء فهم تارة , وعن هوى نفس تارة , وعن سوء توجيه تارة , وعن غفلة تارة أخرى , ومنهم ولاشك من يختار الذنب ويتمرغ فيه .

 

 

ومع ضعف دور العلماء والدعاة في مجتمعاتنا غابت المرجعية المجتمعية الداعية إلى الاستقامة وصار مقياس الفضيلة قيما نظرية مستوردة تعتمد على مصالح ذاتية أو حزبية .

 

 

 

وقد ينعم الله سبحانه على البعض بعلم أو معرفة أو التزام بسلوك إيماني , وقد يتبع ذلك طول مكوث في حلقات علم أو مثاله .

 

 

 

غير أنه ربما ينتج عنه عند البعض تكوين جدار فاصل نفسي وسلوكي سلبي مع أهل المعصية ممن حوله من مجتمعه الذين غالبيتهم لم يتلقوا اهتماما وتربية إسلامية كما ينبغي .

 

 

 

وقد يزداد ذلك الشعور إلى اتهامهم بالنقائص كلها مما يكون بذرة بدائية لنبتة سوء من وسم المجتمع بسمات الجاهلية أو وصف الناس بالتكفير , فيبيح لنفسه استباحة حرماتها بتلك الدعوى المبنية على الجهل والظلم للناس !

 

 

 

الحق أن الأصل في كل من قال لا إله إلا الله محمد رسول الله أنه مسلم له حق الإسلام وله أخوة الإسلام حتى وإن جاء بالمعاصي صغيرة كانت أو كبيرة , كما أن الحق أن مجتمعاتنا هي مجتمعات مسلمة لها حق الإسلام

 

 

 

فالإيمان عند أهل السنة والجماعة لا يزول إلا بزوال أصله, وأما زوال فرعه بارتكاب المحذورات وترك الواجبات فيُنْقص الإيمان ويضعفه ولكنه لا يزيله ولا يذهبه بالكلية.

 

 

 

فالمؤمنون لا يكفرون المسلم بالمعاصي والكبائر, بل الأخوة بين المؤمنين ثابتة ولو مع المعصية .

 

 

 

وإنما دور الدعاة إلى الله أن يوصلوا العلم والخير لهؤلاء العصاة بكل خلق حسن , وبكل سلوك فاضل على طريقة النبي صلى الله عليه وسلم في تعليم العصاة والحلم عليهم والصبر عليهم وتبصيرهم وإعذارهم , وطريقة القرآن الكريم " قل هذه سبيلي أدعوا إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني "

 

 

بل إن مبحثا لابد من التطرق إليه حول نشر دعوة الإسلام وسماحته وخيريته وفضله للدول الغربية والشرقية في العالم ممن لا تعرف الإسلام جيدا , ولم يصل لها منه إلا ما تبثه وسائل الإعلام الموجهة , لأن هؤلاء ايضا مجتمع للدعوة إلى الله , ويجب التزام الحسنى والبصيرة وحسن الخلق معهم , لعل الله أن يهديهم ويهدي بهم .

 

 

 

نعم يحرص كل صالح أن يلتزم بصحبة صالحة من أهل الخير , ونعم يميل كل قلب تقي إلى الطاعة ويبغض المعصية , ونعم يحب المؤمنون الناس بقدر طاعاتهم , ولكن مع ذلك كله فإن هناك دورا كبيرا ملقى على عاتق المصلحين في دعوة أهل الغفلة والمعصية وردهم إلى دينهم ردا جميلا , والسبيل إلى ذلك هو الكلمة الطيبة مع المشاعر الطيبة والأخلاق الطيبة .

 

 

 

وارجو أن أختم بذلك الحديث : أن شابا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم يقول له يا رسول الله رخص لي في الزنا , فما غضب عليه الرسول صلى الله عليه وسلم وما عنفه ولكنه حادث قلبه وعقله , فقال له متسائلا : أترضاه لأمك ؟ أترضاه لأختك ؟.. إلخ , والشاب يقول لا , فيقول الرسول صلى الله عليه وسلم وكذلك الناس لا يرضونه

 

 

 

ثم إذا بالنبي صلى الله عليه وسلم يعامله معاملة الداعية المحب فيضع يده على صدره ويدعو له أن يطهر الله قلبه , فيخرج الشاب من عنده قائلا : جئت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وما من شيء أحب إلى من الزنا , فخرجت من عنده وما من شيء أبغض إلي من الزنا ! ....  إن هذا إذا لنموذج عملي تطبيقي منهجي رائع ..