لا ريب عندي أن هناك دمعات صادقات قد تساقطت من عيني الشيخ الكريم ناصر العمر , بينما ينظر خلفه ليجد طريقا طويلا عبر ثلاثين عاما مضت , كان قد بدأها برجاء أن يوفقه الله في سعيه الذي اصطحب فيه درسه المبارك النافع في شرح منار السبيل ..
تلكم الدمعات التي تلخص مسيرة صحبة عامرة , اختلط فيها العلم بالتطبيق , والفهم بالحكمة , والرؤية بالبصيرة , فكانت منارات هدى وعلامات طريق .
كثير من كتب العلم والفقه قد شرحها علماء فضلاء , فأفاضوا وأجادوا , وعلموا ودرسوا , فكتب لهم الثواب والأجر , لكنني أجدني اليوم أمام نوع من التعليم الفقهي القرآني التربوي الأخلاقي المتكامل , يسعى فيه شارحه – كما هو منهجه في حياته كلها – أن يربط كلماته وأفكاره بكتاب الله سبحانه , فيستفيد الفائدة الفقهية مزينة بالتطبيق الواقعي , محاطة بالخلق التربوي المستقيم , فيبلغ المعلومة ومعها أدواتها المؤثرة , وميزانها المعتدل .
وكما هي جدية الرجل في حياته وطريقته , كانت تلك الجدية ناضحة واضحة على درس علمه , الذي استمر ثلاثة عقود متتابعة , لم يتوقف إلا هنيات قليلات في صحبة خير آخر من دعوة وهدى ..
كنت كثيرا ما أسمعه يقول : إن الأمة ليست بحاجة لعالم يحفظ الأوراق , بل لعالم يطبق معانيها ويُعلم سبيلها , ويترك اثره في قلوب الناس وعقولهم , بتطبيقه ما يدعو إليه من خير وما يبثه من علم , ولعل الله رزق الشيخ ماكان يدعو إليه , فلازلت أرى جميل أثره على تلك الوجوه المتكاثرة التي استفادت من نبراسه وتعلمت تحت يديه , فكانت هي الأخرى منارات خير لغيرها ... فكم ياترى بلغ هذا الخير ؟! وإلى اي البقاع وصل سنا ذي الجهد ؟! .. أحسبه كذلك ولا أزكيه على الله .
المقاصدية هي الأخرى زاوية أصيلة من زوايا الرؤية الفقهية , ودائرة تحيط بها , ومنبع أساس يؤثر في الفتوى , وهي ما كان يوليه الشيخ في دروسه عبر السنين اهتماما مقدما , فيعرض المسألة الفقهية في إطار مقاصد الشريعة التي تنتمي إليها , ومن ثم تبين حدودها , ومدى قابلية تأثرها بتغير المعطيات فيها , فيعرض نوعا من التوازن في الفهم بين الحكم والفتوى الواقعية , وبين الدليل والمقصد .
كنت كثيرا ما أحمد في الشيخ قضية الثوابت , ورسوخها في منهجه , وهي علامة يلحظها كل من تابع الرجل وتابع جهوده الكريمة , لكن رسوخه على تلك الثوابت لم يكن ليمنع رؤيته المتجددة للوسائل المشروعة من التطبيقات الدعوية والعلمية سواء على المستوى النظري أو التطبيقي .
ولم تكن كذلك ثوابته إلا أن تكون مصدرا إيجابيا لرؤى متوازنة للمسائل الآنية , تحيطها الحكمة , ويعززها العلم .
إن آثارا مركوزة على منابر الدرس , وقلوب المتعلمين , وجدران البنايات , وتراب الطرقات لتجتمع ناطقة شاهدة لهذا العمل الذي ارجو أن يجزل الله لصاحبه ثوابه ولكل من أعانه عليه ..
لكأنني أحكي عن قصة عطاء لا محدود , ومسيرة بذل مشهودة , حفت بالعقبات والصعوبات والمشاق , لكنها أيضا بوركت بفضل الله ومنته بالنجاح والتأثير , والأثر المبارك الطيب , والبصمات الإيجابية المحفورة في وجدان الملايين ممن تأثروا بجهد الشيخ وعلمه وتطبيقه .
وكما دمعاته النقيات تتساقط وفاء ورضا ورجاء من الله أن يتقبل منه جهده وعمله , فإن طريقا ينتظره , وأمة تحتاج إلى أثره واثر أمثاله , يضمد جراحها النازف , ويعيد لحمتها الواهنة , ويضىء سبيلها بمنارات مضيئة ..