مع شيوع بعض مظاهر عقوق الوالدين بين كثير من أبناء الأمة في هذا العصر , ومع كثرة النماذج السلبية التي قد تظهر بين الحين والآخر في هذا الإطار .....فإن هناك الكثير من النماذج الراقية لبر الوالدين التي ما زال النبلاء من المسلمين يؤكدون من خلالها حتمية خلود دين الله الخاتم , واستحالة خلو أي حقبة زمنية في هذه الحياة من الأمثلة والنماذج التي تشير إلى جوهره الفريد .
النموذج المقصود في هذا المقال هو ذلك البر الذي يختص به أحد الأبناء دونا عن بقية إخوته , ويمتاز به ولد من أسرة مسلمة علم تمام العلم معنى بر الوالدين ومكانته ومنزلته في الإسلام , وأيقن أن الفوز كل الفوز في الدنيا والآخرة في رضا الوالدين وبرهما والإحسان إليهما , وأن عدم التوفيق في الدنيا والخسران يوم القيامة هو نهاية العقوق ومآله .....
يرى ذلك النموذج أن بر الوالدين والإحسان إليهما وقضاء حوائجهما والإسراع بتلبية طلبهما قبل أن يسألا.... شرفا ومغنما قبل أن يكون تكليفا و واجبا , كما يعتبر مشقة احتمال جميع متطلبات كبرهما و السهر على راحتمها يهون أمام الفوز برضاهما .
لا يتكاسل هذا النموذج أو يتقاعس عن خدمة والديه و تقديم العون لهما بذريعة وجود إخوة له يمكن أن يقوموا بهذا العمل أو ذاك بدلا عنه , ولا يتوانى عن تلبية دعوتهما له بفعل أي شي رغم قدرته على تحويل المهمة على أخيه بحجة أنه مشغول أو لا يستطيع أن يقوم بهذا العمل أو ذاك الآن .
نعم ....لقد انتشرت عبارة " قولي لأخي" أو " لماذا لا تطلبوا ذلك من أخي" بشكل كبير ومؤسف بين الأبناء حين تطلب الأم أو الأب من أحدهم شيئا , وشاع بين كثير من الأولاد استخدام هذه العبارة للتهرب من قضاء حوائج الوالدين , حتى أضحت مظهرا من مظاهر عقوق الوالدين بشكل صارخ .
لقد بلغت آثار هذه الظاهرة حدودا خطيرة , حيث غدت سببا في حرمان الوالدين من كثير من حقوقهما , و عاملا في وقوع الكثير من الأبناء في باب من أبواب العقوق , ناهيك عن تسببها في إنشاء حواجز بين الوالدين وأبنائهم , وامتناع الوالدين عن طلب ما هو ضروري - وربما مصيري - بالنسبة إليهما تحرجا من الرفض المبطن من الأولاد عبر عبارة "قولي لأخي" .
من هنا يمكن إدراك رقي نموذج بر الوالدين الذي بين أيدينا , الذي لا يمكن أن يحجم عن تلبية رغبة والديه أو قضاء حوائجهما بمثل تلك العبارة السلبية , لعلمه الأكيد أن اختيار والديه له لأداء هذه المهمة او تلبية ذلك الطلب يكمن في كونه الأكثر مناسبة وملائمة لتلك المهمة , أو ليقين والديه بسرعة تلبيته لطلبهما دونما تلكئ أو تباطئ كما يفعل بعض إخوته .
كثيرة هي الأسماء التي في الذاكرة من أمثال هذا النموذج الراقي لبر الوالدين , ولكن ما يحضرني منه هو ذلك الشخص الذي عرفته منذ سنين , ولطالما كانت تهزني تلك العبارة التي كان يرددها كلما أثنى عليه أحد والديه بعد أن سارع في قضاء حاجة من حوائجهما , حيث كان يقول لهما ردا على الثناء و الاعتذار على تكليفه دائما بجميع المهمات والأعمال ...."المكسب معي" .
إنها عبارة تتجاوز في صدقها و تعبيرها عن رقي بره وجميل معاملته مع والديه حدود المجاملة إلى التعبير عن الحقيقة الناصعة الساطعة , فالمكسب بالفعل معه باختيار والديه له لينال الثواب العظيم الذي وعد الله تعالى به البار بوالديه , والفلاح كل الفلاح لمن اغتنم وجود والديه أو أحدهما على قيد الحياة بالبر والإحسان بعيدا عن المقارنة بتقصير بعض إخوته , والخير كل الخير في درب كل مع خفض الجناح لهما وجعل الكلام الكريم منهجا في مخاطبتهما والتعامل معهما , قال تعالى : { وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا } الإسراء/23-24
كثيرة هي الشواهد التي تؤكد وجود الكثير من أمثال نموذجنا الراقي في بر الوالدين , ولا يفوتني في هذا المقام أن أذكر القارئ الكريم بتلك القصة التي اعتبرها الكثير غريبة وعجيبة في زمننا المعاصر , ألا وهي قصة مثول أخوين أمام القضاء السعودي يتنافسان في بر والدتهما .
فقد نشرت صحيفة الرياض السعوديه تحت عنوان (صراع حاد بين أخوين) قصة تنافس "حيزان الفهيدي" الرجل المسن من الاسياح "قرية في منطقة القصيم بالسعوديه" الذي بكى في المحكمة حتى ابتلت لحيته , لأنه خسر قضية رعايته لوالدته العجوز بعد حكم القاضي لأخيه برعايتها لأنه أقدر منه على ذلك !!
لقد بكى حيزان بعد حكم القاضي لفوات خير كثير وأجر عظيم كان يكتب له طوال فترة رعايته لأمه في غياب أخيه , بينما أدرك أخوه - الذي جاء من مدينة أخرى – ما فاته من ذلك الخير , فسارع ليدرك شيئا منه قبل فوات الأوان , حتى لو تطلب الأمر رفع قضية أمام المحكمة للفوز بذلك المجد .
ليس غريبا إذن ولا عجيبا أن يلجأ الأخوان إلى القضاء ليفصل في حرصهما الشديد وتنافسها المحمود على إدراك ذلك الخير العظيم الذي قد يغفل عنه كثير من أبناء الامة اليوم , بل الغريب والعجيب أن يزهد البعض في ذلك الباب الذي يخفي وراءه الفلاح والنجاح في الدنيا , والنجاة والفوز والجنة في الآخرة .