العبادة الأصعب !
14 ذو القعدة 1438
د. عامر الهوشان

لا شك أن التزام المسلم بإقامة الصلاة في أوقاتها وصيام رمضان وأداء الزكاة ...وسائر العبادات الشعائرية التي كلّف الله تعالى بها عباده المؤمنين......فيه من الجهد ومخالفة أهواء وشهوات النفس التي تميل إلى الدعة والراحة والتهرب من التكاليف ما لا يمكن أن يجادل فيه مسلم عاقل .....

 

إلا أن العبادة الأصعب - حسب واقع حال المسلمين المشاهد -  هو ترجمة أثر هذه العبادات إلى واقع في سلوك حسن بمختلف شؤون حياة المسلمين اليومية , وإظهار النتائج والثمار المرجوة من تلك العبادات في معاملاتهم وقضائهم ومجتمعهم , وتجسيد مقاصد الشريعة الإسلامية المكنوزة في الفرائض الشعائرية واقعا و سلوكا على أرض الواقع المعاش.

 

 

إن كثرة التجاوزات والمخالفات التي يتم رصدها بشكل ضخم ورهيب فيما يتعلق بجانب العبادات التعاملية بين المسلمن إن صح التعبير .... كالغيبة والنميمية والكذب وإخلاف الموعد ونقض العهود وأكل أموال الناس بالباطل ومماطلة المدين والفش وممارسة البغي والظلم على الغير والتدخل فيما لا يعني والهمز واللمز والقذف والسخرية والتجسس والبهتان و...........الخ 

 

 

تشير بشكل واضح إلى وجود خلل في كيفية أداء كثير من المسلمين للعبادات الشعائرية المفروضة , وعدم فهم صحيح لروح ومقاصد الشريعة الغراء من تلك الفرائض , أدى بدوره إلى ظهور ذلك الانفصال الخطير بين إقامة الصلاة وثمارها المرجوة المنصوص عليها في كتاب الله تعالى بقوله : { ......وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ....} العنكبوت/45 , و بروز تلكم القطيعة الغريبة بين صيام رمضان و النتيجة المقصودة منه في قوله تعالى : {  يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } البقرة/183 

 

 

إن ذلك الفصل الغريب الذي أحدثه بعض المسلمين بين العبادة الشعائرية المفروضة ونتائجها وثمارها المرجوة في السلوك والتصرفات اليومية مع الناس , والشكاوى المتزايدة التي لا تكاد تتوقف أو تنقطع من وجود بون شاسع بين بعض المصلين من المسلمين وسلوكهم في ميدان التعامل بالدرهم والدينار الذي من المفترض أن يكون موافقا لشرع الله لا مخالفا له , ومسافة هائلة بين بعض المعروفين بصيام التطوع فضلا عن الفريضة وبين حسن الخلق الذي جعله الله ملازما للمؤمنين الصادقين......

 

هو ما دفعني للتأكيد على أن العبادة الأصعب هي تلك التي يدلل بها المسلم على حسن فهمه لأمر الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم , بل وحسن أدائه والتزامه بما كلفه الله تعالى به من فرائض وواجبات , من خلال ظهور أثر تلك العبادات والفرائض على سلوكه وتصرفاته مع غيره من عباد الله , بدءا بأسرته وأرحامه , وصولا إلى جيرانه وأهل حيه وبلدته , وانتهاء بمجتمعه وعموم المسلمين والناس أجمعين .

 

 

كثيرة هي الأدلة من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم التي تؤكد على ذلك التلازم المطلوب بين أداء فرائض الله الشعائرية وبين حسن الخلق وحسن معاملة الآخرين في البيت والسوق والمجتمع , قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى ...} البقرة/264 , وقال تعالى : { الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ ...} البقرة/197

 

 

 

وفي الحديث الصحيح عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالْعَمَلَ بِهِ فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ ) صحيح البخاري برقم/1903

 

 

 

ولعل الحديث الآتي يغني في هذا المقام , فعن أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( أَتَدْرُونَ مَنِ الْمُفْلِسُ ؟ ) قَالُوا : الْمُفْلِسُ فِينَا يَا رَسُولَ اللهِ مَنْ لاَ دِرْهَمَ لَهُ وَلاَ مَتَاعَ ، قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( الْمُفْلِسُ مِنْ أُمَّتِي مَنْ يَأْتِي يَوْمَ القِيَامَةِ بِصَلاَتِهِ وَصِيَامِهِ وَزَكَاتِهِ ، وَيَأْتِي قَدْ شَتَمَ هَذَا وَقَذَفَ هَذَا ، وَأَكَلَ مَالَ هَذَا ، وَسَفَكَ دَمَ هَذَا ، وَضَرَبَ هَذَا فَيَقْعُدُ فَ يَقْتَصُّ هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ ، وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ ، فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يُقْتَصّ مَا عَلَيْهِ مِنَ الخَطَايَا أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَ عَلَيْهِ ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ ) صحيح ابن حبان بسند صحيح وسنن الترمذي برقم/2418

 

 

نعم ....ليس هناك إنسان على وجه الأرض منزه عن الوقوع في الأخطاء أو معصوم عن ارتكاب الذنوب والمعاصي , والمسلم المصلي الملتزم بعبادات الله الشعائرية إنسان كباقي البشر معرض للزلل والوقوع فيما لا يرضي الله في بعض معاملاته مع الناس , إلا أن ذلك يبقى سلوكا عرضيا سرعان ما يرجع عنه ويتوب ويستغفر ولا يستمر فيه أو يصرّ عليه .

 

 

ليس حلّ هذه المعضلة المستعصية والمشكلة المزمنة بترك بعض المسلمين – وللأسف الشديد – لعباداتهم الشعائرية لعدم موافقتها لسلوكهم التعاملي المخالف لشرع الله هربا من النقد أو الذم كما يتوهمون ويظنون , بل يكمن الحل بالثبات على أداء العبادة الشعائرية و مجاهدة النفس على حسن إقامتها كما أمر االله وكما فعل رسوله صلى الله عليه وسلم , حتى تؤتي ثمارها الطيبة المرجوة منها في نهاية المطاف على أرض الواقع بحسن السلوك التعاملي .