على أعتاب أفضل أيام الدنيا
27 ذو القعدة 1438
د. عامر الهوشان

من فضل الله تعالى ورحمته بعباده أن جعل لهم مواسم للطاعة والعبادة والمغفرة , ومحطات لتكفير السيئات وتجديد التوبة والإنابة إلى الله , وأوقات تكون فيها أعمال البر والخير مضاعفة بعشرات ومئات المرات عن غيرها من أيام العام.... لتكون فرصة للبعيد عن منهج الله وطريق الحق كي يعود ويتوب , ومنحة للراغبين بالأجر والثواب والطامعين بالقرب من الله كي يتسابقوا في هذا المضمار .

 

 

لم يقرع سمعي يوما أن تاجرا من تجار الدنيا قال لأصحابه يوما لائما ومعاتبا وقد دخل موسم تجارته وبدأ أقرانه يبيعون بضائعهم التي أعدوها مسبقا ويحصدون ثمار استعدادهم التام لموسم تجارتهم بامتلاء جيوبهم بالأموال .... : لماذا لم ينبهني أحد بأن الموسم قد اقترب لأستعد أو يذكرني واحد بأن وقت الغنيمة قد أزف ....فالجميع مستعد لأمثال تلك المواسم ومستنفر لها قبل موعدها بأسابيع وأشهر لا بأيام .

 

 

في المقابل يمكن أن تسمع مثل هذه العبارات من بعض المسلمين مع حلول موسم شهر رمضان أو بداية موسم عشر ذي الحجة التي لم يعد يفصلنا عنها سوى أيام , لتكون النتيجة والمآل فوات موسم آخر من مواسم الخير والبر دون حصاد وفير أو ثمار كثيرة كما كان يُفترض ويجب .

 

 

والحقيقة أن سبب الفتور الذي قد يبدو من بعض المسلمين تجاه موسم العشر من ذي الحجة الذي يعتبر من أعظم مواسم الخير والطاعة والقرب إلى الله , وضعف الإنجازات وتواضع الثمرات وضآلة الحصاد في نهاية تلك الأيام الفاضلة....يعود إلى ضعف الاستعداد والتهيئة له في غالب الأحيان .

 

 

لا يمكن لمسلم منصف أن يعود باللائمة فيما سبق إلى ضعف التذكير بموسم أفضل أيام الدنيا , فلا أظن أن خطيب مسجد من مساجد الدول العربية والإسلامية إلا ويذكر المسلمين بفضل العشر قبل حلولها بأيام , فضلا عن الدروس ومجالس العلم التي لا تفتأ تنبه المسلمين بقرب موسم عشر ذي الحجة الذي يضاعف الله الثواب فيه إلى أضعاف , ناهيك عن وسائل التواصل الاجتماعي التي باتت تعج برسائل التنبيه بوجوب الاستعداد وتهيئة النفس لاستقبال نفحات الله وعظيم أجره وثوابه للمقلبين عليه في هذه الأيام .

 

 

بيت القصيد في تفسير حالة الفتور التي تعتري بعض المسلمين تجاه الاستعداد الأمثل لموسم من أفضل وأعظم مواسم الآخرة "العشر" رغم التنويه المكثف والتذكير الكثير بعظيم ثواب اغتنام أيامه ولياليه هو : وجود خلل في محور الاهتمام وترتيب الأولويات في حياة بعض المسلمين , حيث باتت الدنيا والأمور المادية والدرهم والدينار هي الغالبة على تفكيرهم وتركيزهم , ولم تعد الآخرة وبضاعتها من الأعمال الصالحة وعملتها الحسنات ...في المقام الأول في ترتيب أولوياتهم .

 

 

يكفي دليلا على خلل حب الدنيا وتقديم عملتها على عملة الآخرة عند بعض المسلمين تصور ما يلي : ماذا لو أن أعمال الخير والبر في أيام العشر من ذي الحجة كان معجلا في الدنيا وليس مؤجلا إلى يوم القيامة , وأن لكل من يصوم يوما من تلك الأيام مبلغا كبيرا من المال بدل الحسنات , وأن أضعاف ذلك المبلغ لكل من يصوم يوم عرفة , وأن على التسبيح والتحميد والتكبير وأنواع الذكر جوائز وهدايا مادية وليس حسنات ودرجات....الخ , كيف سيكون استعداد الناس لتلك الأيام , وكيف سيكون تنافسهم وإقبالهم على العبادات والطاعات ؟!!!

 

 

وإذا كان الجواب بدهيا ومعلوما فإنه يشير بوضوح إلى ضعف الإيمان وقلة اليقين التي يعاني منها الكثير من المسلمين , حتى باتت المحفزات الأخروية بكثرة الحسنات ومضاعفة الأجر والثواب وتكفير السيئات ورفع الدرجات ودخول الجنات ....لا تشكل دافعا كافيا للاستعداد الأمثل لمواسم الخير , ولا تمنح القوة اللازمة للإقبال على العبادة والطاعة .

 

 

إن من قوي اعتقاده بأن جميع ما في الدنيا من متع وملذات لا يساوي شيئا أمام نعيم الآخرة , ومن رسخ إيمانه ويقينه بأن حسنة واحدة - وليس حسنات – قد تكون سببا في زحزحته عن النار ودخوله الجنان ....سيتحفز ويستعد تمام الاستعداد لاستقبال أيام العشر ولياليها , وسينوي من الآن اغتنامها بالأعمال الصالحة وأبواب الخير ما استطاع , وكيف لا والأجر والثواب فيها مضاعف بشكل يغري كل فطن عاقل طامع بثواب الله لاستثمارها واغتنامها .

 

 

يكفي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتبر هذه الأيام أفضل أيام الدنيا فقال : ( أفضل أيام الدنيا العشر - يعني عشر ذي الحجة – قيل : ولا مثلهن في سبيل الله؟ قال: ( ولا مثلهن في سبيل الله ، إلا رجل عفر وجهه بالتراب ) . رواه البزار بسند حسن وأبو يعلى بسند صحيح وصححه الألباني .

 

 

بل يكفي اعتبار الرسول الخاتم صلى الله عليه وسلم العمل الصالح في هذه الأيام أحب إلى الله من سائر الأيام , ففي الحديث عن ابن عباس رضي الله عنهما ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله منه في هذه الأيام العشر ) . قالوا : ولا الجهاد في سبيل الله !! قال : ( ولا الجهاد في سبيل الله ، إلا رجل خرج بنفسه وماله ولم يرجع من ذلك بشيء ) صحيح البخاري 2/457 .

 

 

كل أعمال البر والخير مستحبة ومرغوبة في هذه الأيام , وجميع أنواع الطاعات والعبادات مضاعفة الأجر والثواب في الأيام المعلومات , فصيام الأيام التسعة من أول ذي الحجة  سنة مؤكدة عن الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم فقد ورد عن بعض أزاج النبي صلى الله عليه وسلم أنها قالت : كان النبي صلى الله عليه وسلم يصوم تسع ذي الحجة ويوم عاشوراء وثلاثة أيام من كل شهر . أول اثنين من الشهر وخميسين ) صحيح أبي داود للألباني 2/462

 

و صيام يوم عرفة يكفر ذنوب سنتين كما ورد في صحيح مسلم عن أبي قتاة الأنصاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( صيام يوم عرفة أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله والسنة التي بعده ) .

 

 

أما فضل الإكثار من التهليل والتكبير والتسبيح في هذه الأيام فقد ورد في حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( ما من أيام أعظم عند الله ولا أحب إليه العمل فيهن من هذه الأيام العشر فأكثروا فيهن من التهليل والتكبير والتحميد ) مسند الإمام أحمد 7/224 وصحّح إسناده أحمد شاكر .