لطالما كنت استغرب احتفالات الناس بانقضاء أعوام من أعمارهم ، وسعادتهم بذلك !
كنت اقول لهم دائما : على الأقل ابحثوا في قيمة العام الفائت لتقيموا نتيجته ، فتسعدوا او تحزنوا ، وإلا فكيف يحتفل الإنسان بفوات عمره ، وكثرة ذنبه ، وقلة انجازه ، وقرب حسابه ؟!
قد أتفهمه من الأطفال حديثي العهد بالدنيا ، إذ يفرحون بقربهم من مرحلة الرجولة والقوة ، لكنني اراه حمقا من الكبار أن يهللوا بالسعادة في سفرهم احتفالا بقرب الوصول إلى محطة الوصول .. تلك النقطة التي يحتاجون قبلها جرد الحساب !
والحقيقة انني وبينما أنظر إلى ركب المسافرين عبر الحياة , تتراءى في عيني ذكريات العمر القريب ، حيث الحياة كلها بمعنى السفر , برا كان أو بحرا أو جوا يمر السفر , والأيام كقارب للنجاة أو الغرق , كقطار يبعد حتى الغروب , حتى نهاية الرؤى والحياة ..
ونحن المسافرون اشبه بالحمقى , قليلا ما نحمل معنا الزاد أو عدة الرحيل , وقليلا ما نهتم بصحبة الطريق , لكننا ننبهر كثيرا بألوان الأشياء العابرة , الجبال والأشجار والصحراء والخضرة , نتابعها دون أن يطرف لنا جفن , ونسهو عن مسافات البعد عن البداية , ونغفل أننا قاربنا نهاية السبيل ..
فلماذا إذن يفرح المسافرون الغافلون أن يقطعوا مسافات السفر ؟ ولماذا إذن يسعدون عند الاقتراب من الوصول ؟ !
إن كل يوم نسافر فيه يدنينا من نهاية الحكاية , يقربنا من ختام العمل , حيث لا شىء غير لحظات الحصاد , والحزن ينتظر , أو السعادة تنتظر ..
فكيف إذن يحتفل الساهون بمرور دورة الزمان إذا كانوا ينتظرون أيام الحساب ؟! ولماذا يجهدون أنفسهم عبر الأروقة إذا كانت الآلام ربما تنتظر عند الخط الأخير؟!
وبينما الحبيب صلى الله عليه وسلم يرسم لنا معاني الحياة ، إذا به يؤكد في عقولنا كونها سفر يحتاج إلى زاد وصحبة وجرد حساب واستعداد , حتى إنه ليزهد راغبا عن الدنيا بما فيها كونه مسافرا نحو الحياة الحقة الخالدة , فيقول :" مالي ودنياكم , إنما أنا كمسافر استظل بظل شجرة ثم راح وتركها " مسلم
الراحلون حتما لا يهتمون بزخرفة أماكن المبيت , ولا يجهدون في تلوين ديار هم لها مفارقون ، ولا يتعبون أنفسهم وراء صيد يعلمون أنهم لن يلحقوه ..
الراحلون الصالحون دوما نصب أعينهم نقطة النهاية , يعدون لها , ويعيشون بأحلامها الناعمة الهانئة , فيدفعون قلوبهم دفعا نحو التقدم , وينبتون في نفوسهم نبات لقاء الحصاد بعد الغرس الطويل الذي غرسوه بأيديهم المخلصة , وسقوه بعرقهم النقي الصادق , وراقبوه بعيونهم الساهرة الباكية الخاشعة , ورعوه بقلوبهم المخبتة ..
فكأني بهم يزفون خطاهم نحو ما يأملون " فلا تعلم نفس ماأخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون "