حين نتحدث عن مشاهد يوم القيامة فنحن نتحدث عن أهم وأخطر المواقف التي سيتعرض لها الإنسان لا محالة , إذ إن عاقبة هذه المواقف والمشاهد دائمة أبدية , والحكم الذي يُقضى به على أحدهم حكم نهائي غير قابل للطعن أو الاستئناف , والمصير في آخر المطاف إما إلى جنة وإما إلى نار - والعياذ بالله - .
لا إمكانية هناك للتحايل أو الكذب أو التنصل من الأفعال والتملص من المسؤوليات , فالشاهد عليك وعلى أفعالك هم جوارحك و حواسك قال تعالى : { يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } النور/24 , ولا مجال يومئذ لأن يتدخل أحد لإنقاذك إلا عملك الصالح الموافق لشرع الله والخالص لوجهه سبحانه .
موقفان اثنان ومشهدان فقط من مشاهد يوم القيامة هما نطاق الحديث في هذا المقال تم اختيارهما لكونهما مما يمكن أن يشهدهما أو أحدهما بعض الموحدين ويتجرع مرارة جزائهما وعقابهما أحد المسلمين .
أما المشهد الأول فيجسده قوله تعالى : { وَقَدِمْنَا إِلَىٰ مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَّنثُورًا } الفرقان/23 والآية وإن كانت تتحدث في سياقها عن الذين لا يرجون لقاء الله تعالى من المشركين وغيرهم كما ذكر ابن كثير في تفسيره إذا قال : أخبر أنه لا يتحصل لهؤلاء المشركين من الأعمال - التي ظنوا أنها منجاة لهم - شيء; وذلك لأنها فقدت الشرط الشرعي إما الإخلاص فيها وإما المتابعة لشرع الله . فكل عمل لا يكون خالصا وعلى الشريعة المرضية ، فهو باطل . فأعمال الكفار لا تخلو من واحد من هذين ، وقد تجمعهما معا ، فتكون أبعد من القبول حينئذ .......
إلا أن ذلك لا يعني نفي فقدان الإخلاص أو الوقوع في إثم الرياء و الشرك الأصغر عن بعض الموحدين وقد وردت الكثير من الأحاديث التي تحذر أبناء الأمة من مغبة وآثار الرياء يوم القيامة , ففي صحيح مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم يَقُولُ : ( إنّ أَوّلَ النّاسِ يُقْضَىَ يَوْمَ القِيَامَةِ عَلَيْهِ رَجُلٌ اسْتُشْهِدَ فَأُتِيَ بِهِ فَعَرّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا ؟ قَالَ : قَاتَلْتُ فِيكَ حَتّىَ اسْتُشْهِدْتُ، قَالَ: كَذَبْتَ، وَلَكِنّكَ قَاتَلْتَ لأَنْ يُقَالَ جَرِيءٌ فَقَدْ قِيلَ ثُمّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَىَ وَجْهِهِ حَتّىَ أُلْقِيَ فِي النّارِ، وَرَجُلٌ تَعَلّمَ العِلْمَ وَعَلّمَهُ وَقَرَأَ القُرْآنَ، فَأُتِيَ بِهِ، فَعَرّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا، قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟ قَالَ: تَعَلّمْتُ العِلْمَ وَعَلّمْتُهُ وَقَرَأْتُ فِيكَ القُرْآنَ، قَالَ: كَذَبْتَ وَلََكِنّكَ تَعَلّمْتَ العِلْمَ لِيُقَالَ عَالِمٌ، وَقَرَأْتَ القُرْآنَ لِيُقَالَ هُوَ قَارِىءٌ، فَقَدْ قِيلَ، ثُمّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَىَ وَجْهِهِ حَتّىَ أُلْقِيَ فِي النّارِ، وَرَجُلٌ وَسّعَ الله عَلَيْهِ وَأَعْطَاهُ مِنْ أَصْنَافِ المَالِ كُلّهِ، فَأُتِيَ بِهِ فَعَرّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا، قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟ قَالَ: مَا تَرَكْتُ مِنْ سَبِيلٍ تُحِبّ أَنْ يُنْفَقَ فِيهَا إلاّ أَنْفَقْتُ فِيهَا لَكَ، قَالَ: كَذَبْتَ، وَلَكِنّكَ فَعَلْتَ لِيُقَالَ هُوَ جَوَادٌ، فَقَدْ قِيلَ، ثُمّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَىَ وَجْهِهِ، ثُمّ أُلْقِيَ فِي النّارِ ) .
وفي حديث آخر قال صلى الله عليه وسلم : ( إِنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمْ الشِّرْكُ الأَصْغَرُ . قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ : وَمَا الشِّرْكُ الأَصْغَرُ؟ قَالَ :الرِّيَاء . إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَقُولُ يَوْمَ تُجَازَى الْعِبَادُ بِأَعْمَالِهِمْ اذْهَبُوا إِلَى الَّذِينَ كُنْتُمْ تُرَاءُونَ بِأَعْمَالِكُمْ فِي الدُّنْيَا فَانْظُرُوا هَلْ تَجِدُونَ عِنْدَهُمْ جَزَاءً ) مسند الإمام أحمد وصححه الألباني .
يا له من موقف عظيم وعصيب وياله من ثمن فادح يدفعه المرائي يوم القيامة , ويا لها من صدمة يتلقاها ذاك الذي تلوث بالشرك الأصغر الذي حذر منه المصطفى صلى الله عليه وسلم , إذ يتفاجأ بذهاب أعماله أدراج الرياح وكأنها الهباء المنثور لفقدانها ركن الإخلاص في الوقت الذي كان يظن أنها ستغني عنه يوم القيامة شيئا .
المشهد الثاني يصوره قوله سبحانه : { قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا } الكهف 103-104
والآية وإن ورد أنها نزلت في اليهود والنصارى كما روى البخاري عن مصعب قال : سألت أبيا "قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا" أهم الحرورية ؟ قال : لا ; هم اليهود والنصارى ...... إلا أنها تعم غيرهم كما قال ابن كثير : هي – أي الآية - عامة في كل من عبد الله على غير طريقة مرضية يحسب أنه مصيب فيها وأن عمله مقبول وهو مخطئ وعمله مردود .
كما أن الثابت في دين الله الإسلام أن من شرط قبول العمل أن يكون خالصا لله قال تعالى : { وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ....} البينة/5 وأن يكون موافقا لما جاء في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ففي الحديث عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ ) متفق عليه
قال الفضيل بن عياض في تفسير العمل الحسن الوارد في قوله تعالى : { الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ...} الملك/2 : أخلصه وأصوبه فقيل له : ما أخلصه وأصوبه؟ فقال : إن العمل إذا كان خالصا ولم يكن صوابا لم يقبل وإذا كان صواباً ولم يكن خالصاً لم يقبل حتى يكون خالصاً صوابا فالخالص ما كان لله، والصواب ما كان على السنة . تفسير البغوي 4/369
إن بيان عاقبة الخروج عن منهج الله وتوضيح جزاء عدم متابعة ما شرع الله تعالى لعباده وتحذير الموحدين من مغبة الابتداع في دين الله ....هو من أوجب ما ينبغي أن يقوم به الدعاة والعلماء في هذا العصر الذي كثرت فيه البدع وانتشرت واتسع خرق عدم التزام سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم وسيرة السلف الصالح على الراقع .