ليس هناك من أحد أهم علينا ولاعندنا من انفسنا تلك التي بين جنباتنا ، تلكم التي ستصحبنا ونصحبها في أحلك الشدائد واحسن المسرات ، تلكم التي " قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها " ..
إنها السر العميق بدواخلنا ، من يحمل عجرنا وبجرنا ، مساوئنا وعيوبنا ، شهواتنا وملذاتنا ، ثغراتنا ونقاط ضعفنا ..الخ
ليس أحد أعرف بها منا ، وليس أحد أعرف بنا منها ..!
إنها أعمق من المرايا التي نقف امامها ، إذ المرايا تظهر الظواهر وتخفي البواطن ، لكن نفوسنا هي بواطننا الحقيقية ، وواقعنا الذي نظهر منه ونخففي .
إنها البئر الأعمق الذي يربض فيه باطن الإثم ، ودوافعه ، ويكمن فيه الرياء والعجب ، والشرور والأحقاد ، والأمراض كلها ..
وهي كذلك الكهف الخفي الذي تتجمع فيه النوايا الطيبة ، والمعاني الكريمة ، والآمال النقية ، والأمنيات الشفافة ..
أليست تلك النفوس بكل ما فيها هي أحق من أوليناه اهتماما ، وراعيناه علاجا ودواء ، وتابعناه تقويما وتعديلا ومتابعة ؟
إن كل امرىء منا لفي حاجة ماسة لأن يحادث نفسه حديثا صادقا , يجلي فيه الحقائق ويضع فيه النقاط على الحروف , ليجيب فيه عن أسئلة حرجة ربما تكون الإجابة عليها منطلقا لحياة جديدة ..
الصالحون دائما يحاسبون أنفسهم ويعاتبونها ويلومونها ويقفون معها عبر حديث يجري بين كل منهم ونفسه , وكأنه يخاطب مغايرا عنه , فيهذبه تارة , ويعاقبه تارة , ويحاسبه تارة , ويحسن إليه تارة أخرى .
وحديث النفس ليس ضربا من ضروب الأوهام ولا الخيالات , وإنما هو موقف جاد يقفه كل امرىء منا مع نفسه .
غالبا ما لا يدرك الإنسان نواقصه , وغالبا مالا يهتم الإنسان بعيوبه , وغالبا ما يغفل المرء عن سقطاته , وحديث النفس يعالج كل ذلك , فيكشف العيوب , و يظهر المثالب ويقوم السقطات ..
والجملة التي قالها الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه , كانت جملة حكيمة لا تخرج إلا من صالح مداو لأدواء نفسه , معالج لأمراضها , إذ يقول : "حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا ,وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم " .
وحديث النفس ينبغي أن يكون شفافا صادقا , إذ إن بعض الناس يضحكون على أنفسهم في أحاديثهم لأنفسهم , فحاله حال الذي ينظر إلى المرآة قائلا لنفسه : يالحسنك , ويالفضلك .
والواجب أن يكون حديث النفس هو حديث البحث عن النواقص لإضافتها , وعن الثغرات لسدها , وعن الانحرافات لتقويمها .
وينبغي أن يكون حديث النفس حديث اعتراف بالخطأ , وحديث بحث عن سبب الخطأ , وحديث مداواة للخطأ , وحديث عزم على عدم تكرار الخطأ .
كثير من الناس يرون أنفسهم أمام أعينهم كاملة غير منقوصة , ويرون ميزاتهم ظاهرة , أولئك الذين يكذبون على أنفسهم ثم يصدقون الكذبات , وأولئك الذين يحقرون الناس , فيرون عيوب الناس جساما ضخاما , في وقت يرون أنفسهم أمامهم وضيئة مضيئة .
هي إذاً دقائق معدودات .. ربما يحتاج أحدنا إلى قلم وورقة , وربما حتى لا يحتاج , ليكتب خطابا لنفسه التي بين جنبيه ، يجتر الماضي ويستعيده ، يبكيه ويشكوه ، ثم يغسله بماء التوبة والاستغفار ..