في البدء كانت الكلمة أساساً للتعاون والتعارف، ومنطقاً للتعايش والتآلف. وإذا كانت في الماضي وسيلة النبوة والأنبياء في خطاب أممهم، وأداة الدعوة والدعاة إلى المدعوين، والعلم والعلماء مع المتعلمين؛ فهي كذلك اليوم وغداً، ستظل مرتكزاً للحوار، ومستودعاً لمباهج الحياة ومآسيها وأوجاعها وإبداعها، وسيبقى الناس في سعة من دينهم ويسر في دنياهم ما شهروا سلاح الكلمة وشحذوه بالثقافة والاطلاع والقراءة المنتجة، وما آثروا الحوار والكلام على الصمت واللغو، الذي لا يكون سوى الصمت المقنع عندما يتكلم الإنسان فلا يقول شيئاً.
والحوار الحق هو الذي:
تحدد فيه نقطة الخلاف أو نقاط الخلاف.
يحدد فيه مرجع الفصل ومرجعيته عند الخلاف.
تتساوى فيه حقوق المتحاورين صورة وصوتاً ووقتاً.
يكون لطلب الحق والحقيقة وليس للغلبة أو النصر.
إن مثل هذه الشروط يجب أن تكون جزءاً من ثقافتنا، وشعاراً ومشروعاً أيضاً للثقافة والمثقفين، والمعلمين والمتعلمين، بل لجميع من يمارسون مسؤولية في أي موقع كانوا.
كما يجب أن يكون الحوار عنصراً أساساً في حياتنا، لا عنصراً تجميلياً أو تكميلياً أو موسمياً نردّه إن لاحت لنا بوادر تشير إلى نتيجة في غير صالحنا، وإن يكن لنا الحق فيه نأت إليه مذعنين.
الحوار بين الزوجين؛ منطلق لبناء حياتهما على أسس صلبة، والحوار بين أفراد الأسرة، يؤسس لعلائق الاحترام والتقدير، وينأى بها عن النكد والتكدير.
الحوار بين المدرس وطلابه يجسّد الصلة بينهم، وهو أوثق مؤهلات المعلم والمتعلم فيما بعد.
الأنبياء – جميعهم – عليهم الصلاة والسلام، دعوا أقوامهم إلى الحوار، وكانت المناقشات أكثرها في الهواء الطلق (وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحىً)، وأن تستغل كل وسائل الإعلام للحضور والتحضير، (وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ).
الحوار أسلوب الواثقين، ولغة المتمكنين، اعتمده "سقراط" في استراحة تلميذه "أكاديموس" الذي نسبت إليه كلمة "أكاديمي" فيما بعد.
كان يبدأ الحوار حول نقطة معينة، يحاور سقراط طلبته لينتهوا إلى تقرير ما أمكن من الحقائق عن الموضوع محل الخلاف، لعل هذا الكلام يؤهل استراحتنا والمستريحين إلى التشوق لذلكم الأسلوب "السقراطي".
المحاور الحق ليس عنده ما يخفيه أو يخاف عليه، إنه يخاف الصمت، ولكن يتقوى بالصبر، يعد نفسه منتصراً إذا ظهرت الحقيقة ولو على لسان خصمه، ولله درّ إمامنا الشافعي – رحمه الله – القائل: "ما حاورت أحداً إلا وتمنيت أن يظهر الحق على لسانه، حتى يكون أدعى لقبوله به، فطلب الحق هو الغاية، وليس طلب النصر أو الكسر.
لما انشق نفر من جند علي – رضي الله عنه – عن جيشه بعد صفين؛ أرسل إليهم حبر الأمة وترجمان القرآن ابن عباس رضي الله عنهما، فما زال يحاورهم "حتى رد سوادهم إلى معسكر أهل السنة والجماعة"(*).
إنها رسالة مفتوحة لنا جميعاً، نقرأ فيها:
الحوار أولاً وثانياً وثالثاً؛ لأن فواتير الحوار مهما كانت باهظة الثمن؛ تظل أقل كلفةً وسلبيةً من غيرها من الأساليب.
وأخيراً؛ فإن تبادل الإدانات لا يفضي إلى شيء، أما تبادل الأفكار والحوار؛ فإنهما يفضيان إلى المستقبل.
---------------------------------
(*) حوار ابن عباس رضي الله عنهما مع الخوارج غني بالفكر وحب هدايتهم. انظر فيه جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر 2/127.