التراشق التربوي
24 ربيع الأول 1425

فاتحة:
"وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا".
عن أبي سعيد أنه سمع رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ يقول: "لا تصاحب إلا مؤمناً، ولا يأكل طعامك إلا تقي" رواه أبو داود الترمذي وسنده محتمل.

تفسير:
التراشق التربوي أسلوب شرعي راقٍ في التربية.. أقصد به أن الشريعة تتشوف إلى عيش المتربي في مجموعة تربوية نظيفة أطول مدة ممكنة.. مما يساهم في التراشق التربوي!
يعني..:إن بقاء المتربي مع مجموعة صالحة سيساهم في تبادل الخبرات التربوية –النظرية- والتطبيقات التربوية –العملية- فيما بينهم، فتنغرس المعاني في نفس المتربي أكثر من انغراسها بخطاب تعليمي أو وعظي مجرد..

تكثيف البرنامج سبيل إلى التراشق التربوي:
حتى لو لم تأمرهم، بل حتى لو لم يكن برنامج! فطول مكوث الشباب في جو تربوي نظيف سيدعوهم إلى التعاضد الإيماني، إلى تراشق السلوك التربوي الذي يعيشونه! أو على الأقل سيحجمون عن إظهار السلوكيات السيئة مما يساهم في كبتها ثم اختناقها وموتها!
أو على أقل قليل –لو أخرجوها في غفلة منك- سيخرجونها في قلق وتوجس، وهذا مكسب عظيم أن يعتاد النظر إلى هذا السلوكيات بعين الريبة!
ثم إن هذا الزخم التربوي الظاهر سيتسرب جزء منه ولا شك إلى الباطن.. سيصطبغ به المتربون –وهذه ثمرة عملية- وسيتعرفون إلى أدبيات تربوية لم يعرفوها سابقاً –وهذه ثمرة معرفية-..
وهناك تطبيقات عملية أدق..! مثلاً ينبغي على المربين مراعاة النخب النجيبة في المحضن التربوي، والحرص على ربطهم –ولو جزئياً- بأجواء تربوية أرقى .. خاصة مع العلماء وكبار الدعاة، أو على الأقل طلبة العلم.. ليتسنى لهم الحصول على تراشق تربوي متقدم!..
وإن من الموت البطيء أن نستهلكهم في العيش مع مجموعات تربوية دونهم؛ بحجة الخوف من غرورهم أو الحاجة إلى أوقات فراغهم.. لا بد.. لا بد أن نعطيهم حصة وافية من حياة تربوية متقدمة..

شواهد شرعية:
ولهذا استمر أمر الشريعة بالحض على هجران أرض الكفر والفسق والتحضيض على صحبة الصالحين؛ لأن الجلوس مع الصالحين أمان ورحمة وأدب، ويسرِّب السلوكيات الراقية ، والجلوس مع أهل الدنيا يميت القلب..يرخي العزيمة.. يسرِّب السلوكيات الضعيفة! فعلى هذا كثف تواجد الصالحين مع بعضهم "وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ" (الكهف: من الآية28)، و"لا تصاحب إلا مؤمناً، ولا يأكل طعامك إلا تقي".
ومن جميل الأخبار خبر الرجل الذي قتل تسعة وتسعين نفساً، فسأل عن أعلم أهل الأرض فدل على راهب، فسأله: هل له من توبة؟ فقال:لا، فكمل به مئة! ثم سأل عن أعلم أهل الأرض فدل على رجل عالم فسأله هل له من توبة؟ فقال: نعم ومن يحول بينه وبين التوبة؟ انطلق إلى أرض كذا وكذا، فإن بها أناسا يعبدون الله فاعبد الله معهم ولا ترجع إلى أرضك فإنها أرض سوء...، قال الحسن: ذُكِر لنا أنه لما أتاه الموت نأى بصدره!، والحديث رواه مسلم عن أبي الصديق عن أبي سعيد _رضي الله عنه_ وأصله في البخاري.
أرأيت؟ إلى الصالحين.. ولو بشبر..!
قال النووي _رحمه الله_: قال العلماء:في هذا استحباب مفارقة التائب المواضع التي أصاب بها الذنوب والأخدان المساعدين له على ذلك ومقاطعتهم ما داموا على حالهم، وأن يستبدل بهم صحبة أهل الخير والصلاح والعلماء والمتعبدين الورعين ومن يقتدي بهم وينتفع بصحبتهم، وتتأكد بذلك توبته".

شواهد أخرى:
ويمكن الاستدلال على ذلك أيضاً بالنهي عن المجاهرة.. وفي الصحيحين من حديث ابن شهاب عن سالم بن عبدالله عن أبي هريرة أن النبي _صلى الله عليه وسلم_ قال: "كل أمتي معافى إلا المجاهرين".
المجاهرة –إضافة إلى كونها استخفافاً برب العباد وبالعباد أيضاً- فهي سبيل إلى التراشق التربوي السيئ، فالزخم التربوي السيئ يتسرب إلى النفس ويضعف الهمة –وهذه آفة عملية-، وسيعرف المتربي على أبواب شر وطرق فساد لم يكن يعرفها من قبل، وهذه –آفة معرفية-.

وعلى هذا:
فمن المهم غاية الأهمية: الحرص على المجموعة التربوية، وتنقيتها، والحرص على الجو التربوي النظيف العام أعظم من الحرص على تفصيلات البرنامج:

وبلوتُ أخلاقَ الرجالِ فلم أجدْ  
إلا النبيَّ محمداً فجعلتُهُ