الإنسان أطول المخلوقات طفولة، فمتوسط أعمار هذه الأمة بضع وستون عاما والطفولة اثنا عشر عاما تقريبا، فهي تمثل نسبة (5:1)، وتلك نسبة كبيرة لا تكاد توجد مثلها بين المخلوقات، فطفولة القط مثلا نحو شهرين بينما متوسط عمره عشر سنوات وهذا ما نسبته (60:1)، وقد جعل الحكيم الخبير الإنسان مستخلفاً في الأرض، ولأنه حامل الأمانة التي أبت السماوات والأرض والجبال أن يحملنها وأشفقن منها، فكان لابد من اكتسابه خبرات طويلة، وإعداده لحمل الأمانة بدنياً ونفسياً وعقلياً واجتماعياً، وقبل ذلك كله إيمانياً وخلقياً.
وأداء واجب الخلافة في الأرض يكون بنشر دين الله الذي ارتضاه بين الناس، ولما كانت المبادئ النظرية لا تعيش فضلاً عن أن تنتشر إلاّ على أجساد الأجيال، فتكون سلوكا تطبيقياً يحرك الأجسام، كان من الأهمية بمكان أن يكون كل فرد نموذجاً مجسّماً للإسلام، يراه الناس فيرون الإسلام، وهذا ما فعله المربي الأعظم عليه أفضل الصلاة والسلام، "لقد كان هدفه الأول أن يصنع رجالاَ لا أن يلقي مواعظا، وأن يصوغ ضمائر لا أن يدبج خطباً، وأن يبني أمة لا أن يقيم فلسفة، لقد صاغ من فكرة الإسلام شخوصاً، وحول إيمانهم بالإسلام عملاًَ، وطبع من المصحف عشرات النسخ، بل مئات وألوف، لكنه لم يطبعها بالمداد على صحائف الورق، بل طبعها بالنور على صفحات القلوب، ثم أطلقها تعامل الناس تأخذ منهم وتعطي، وتقول بالفعل والعمل ما هو الإسلام الذي جاء به محمد بن عبدالله عليه الصلاة والسلام"(1) . وهذه هي مهمة أمة الرسالة. أن تصوغ من الإسلام شخوصاً تمشي على الأرض وقلوبها متعلقة برب السماء.
ولتحقق ذلك لابد من سلوك سبيل تربية طويل للنشء، زاد قاصده حصيلة أعوام من التربية الذاتية، أو موروث ثمين من المؤن التربوية.
والخطوة الأولى في طريق التربية بناء الأسرة المسلمة التي تعرف ما الذي يراد منها، وتملك من الوسائل ما يبلغها الغايات. وهذه هي أهم الخطوات، ولذا كان التشريع للأسرة يشغل حيزاً كبيراً من تشريعات الإسلام, وقدراً ملحوظاً من آيات القرآن. فالتربية تبدأ من هنا.. جاء أحدهم إلى مالك بن نبي يسأله كيف يربي ولده، فسأله كم عمره؟ قال: بضعة أشهر فقال له: لقد تأخرت كثيراً يا أخا العرب!
إن الطفل يقضي أشد فترات عمره حساسية بجانب أمه، فالسنوات الخمس الأولى تتشكل فيها الملامح العامة لشخصية الطفل، وأي خطأ تربوي، وكل هزة نفسية فيها تحدث شرخاً عميقاً ربما عزّ علاجه. لذا كان من حق الولد على أبيه أن ينتقي أمه، فالناكح مغترس، والعرق السوء قلما يَنْجُب، فلينظر امرؤ حيث يضع غرسه. كما يحسن أن يغترب ما استطاع لئلا يُضوِ، فكلما تباعدت الخريطة الجينية كان أصح للولد وأنجب.
كما أن على المرأة كذلك ألا ترضى بغير ذي دين يعرف حقها، وذي خلق يحسن صحبتها، ويكرم بنيها، وما عدا ذلك عرض تأتي به الأيام وتذهب، وبيت أبيها خير لها من زوج شكسٍ غضوب، وابن عاق عاص.
إن أعداء الأمة يعلمون أن السبيل لإضعاف الأجيال المسلمة هو خلخلة قواعدها وإضعاف أساسها، فلا غرو أن تراهم في عمل دءوب يرمي إلى تصديع كيان الأسرة وإشاعة التوتر والاضطراب فيها، باسم تحرير المرأة تارة، ودعاوى مناهضة التمييز تارة أخرى. يستغلون لذلك الإعلام والمنظمات الدولية، ويعقدون من أجله المؤتمرات الإقليمية والعالمية، ويبتكرون وسائل شتى في سبيل إعادة تشكيل العقول وصياغة المبادئ من ناحية، وإرغام المارقين على المخطط الأثيم من ناحية أخرى.
إن صيحات المساواة والحرية والانفلات من قبضة الرجل كما يحلو للمستغربين أن يقولوا لتهز كيان الأسرة هزاً، وتمزق نفسيات الصغار تمزيقاً. فالمرأة التي تنازع زوجها القوامة إنما تجني على نفسها أولاً، ثم على بنيها وزوجها. إنها تخطئ ألف مرة حينما تتصور أن القوامة تعني التسلط والسيطرة كما يردد أدعياء الحرية والتمدن، واللغة والشرع يشهدان بغير ذلك. فالقيم على الشيء هو الذي يصلح أمره، ويقيم أوده، ويلم شعثه.
والشريعة ناطت خيرية الرجال بإحسانهم إلى أهلهم، ونبي الإسلام كان أرفع مثل في ذلك. والله العليم الحكيم جعل المرأة والرجل شطرين لنفس واحدة، ليسكن أحدهما للآخر، ويكمل أحدهما صاحبه. فالعلاقة بينهما ليست علاقة تصارع وتغالب، لكنها علاقة تكامل وتعاون.
أما الآية الوحيدة التي تعجب المتحررين المشفقين على المرأة من شرع خالقها، فهي التي يرددون جزءها: (فاهجروهن في المضاجع واضربوهن) بمناسبة وغير مناسبة، ولا يعلمون أنها جاءت في مقابل تقصير المرأة في أوجب واجباتها وإصرارها على ذلك بعد وعظها وتذكيرها. أو يعلمون ويتجاهلون!
إن المرأة كسائر عناصر الطبيعة مخلوقة بمواصفات معينة، يصلحها ما يناسب الذي فطرها عليه أحسن الخالقين، فإذا انقلبت على خِلقَتها وأبت إلاّ أن تكون خلقاً آخر شقيت وتعست وربما أشقت وأتعست وكانت عاقبة أمرها خُسرا. إن التشريع الرباني يراعي عند توزيع الأعباء على شطري النفس الواحدة، يراعي الاستعدادات الفطرية الموهوبة لكل منهما.
إن الصراع على السلطة في مملكة البيت كما يقولون والتي هي عبء يثقل مطا الرجال، ليخلق صراعاً مدمراً محتدماً في نفوس الأطفال، حتى ولو حاول الوالدان إبعاد الطفل عن هذه المعارك أو حاولا إخفاءها عنه، "فالذي ينشأ في أسرة مضطربة يتوقع دائما أن تكون حياته الزوجية مليئة بالنكد والخلافات والصراع وجرح كرامة الآخر، بل يسعى دون أن يشعر لخلق المشاكل في حياته العامة والخاصة. إن الذي كان يلعب في طفولته دور الضحية لخلافات الأبوين ويتألم لذلك يصبح في الكبر جلاداً، ويجد لذة في ممارسة هذا الجلد النفسي للآخرين"(2).
أما إذا انتهى الصراع بفوز الأم واستطاعت أن تثبت أنها شرسة قوية! ليست بحاجة إلى وصاية، وأن قبضتها الحديدية لن يفلت منها صغير ولا كبير فما أتعسها وما أتعس بنيها!
لقد أثبتت دراسة نفسية أن الولد يولد بذكورة فطرية ويسعى لاكتساب صفات الرجولة بتقليد صاحب السلطة في البيت، فإن كان قيم الأسرة أباه كمّلت صفاته الرجولية المكتسبة ما فطر عليه، وإلا اكتسب من صفات أمه وعاش وفيه شيء من أنوثة، وقد قرر علماء الاجتماع أن نسبة الشذاذ بين هؤلاء أكبر من غيرهم.
وبالمقابل تولد البنت رقيقة لطيفة لينة فإن صادفت أما متسلطة تأثرت بأبيها وجاءت مسترجلة "وهذه ستجد نفسها غير قادرة على احترام الرجال أو الثقة بهم مهما حققوا من نجاح في حياتهم العملية"(3).
____________
(1) سيد قطب: دراسات إسلامية، فصل انتصار محمد بن عبد الله، بتصرف يسير.
(2) د.سبوك: حديث إلى الأمهات، مشاكل الآباء في تربية الأبناء، ص327، بتصرف.
(3) د. سبوك، المصدر السابق، ص330.