تمهيد:
قال _تعالى_: "وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا".
وقال _تعالى_: "وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلاً". (وقرئ "فرَّقناه" بالتثقيل).
تفسير:
المجتمعات التربوية حياة.. خِضمٌّ حافل بالأحداث.. بالمواقف.. بالنفوس المختلفة.
ستمر بك –أيها المربي- في مجتمعك التربوي مواقف مختلفة ونفوس مختلفة؛ إحسان وإساءة، تقدم وتأخر، نجاح وفشل، نعم ومصائب، يمر بك مغرور ومحطم، مستعجل ومبطئ، عاقل وجاهل، كريم ولئيم..
والمربي يحتاج إلى علاج المواقف.. كما يحتاج إلى علاج النفوس.
وهنا أسلوب راقٍ في التربية، هو: (التربية الساخنة).
أعني بها أن يسعى المربي في اختيار مواقفه التربوية؛ فيوقعها حسب المواقف والأحداث، عليه أن (يتربص) بإخوانه (المواقف)؛ ويضرب (بمطارق) التربية في (سخونة) الأحداث.
حين تلقي على إخوانك فائدة فهذا تلقين ، ولكن حين تلقيها في الموقف المناسب لها فتلك تربية.
لا يكفي في التربية أن تسرد عليهم قائمة بالمستحبات والمكروهات؛ لا بد أن تجعل الموقف الساخن فرصتك السانحة لإيقاع التربية المناسبة؛ لـ(تفصيل) المستحبات والمكروهات على (جسم) الأحداث.. الإسلام حياة.
أمثلة:
عامة أسباب النزول في القرآن وأسباب الورود في الحديث هي أمثلة لنا..
خذ مثلاً.. روى أهل التفسير أجمع –كما يقول القرطبي- أن قوماً من أشراف قريش كانوا عند النبي _صلى الله عليه وسلم_ وقد طمع في إسلامهم، فأقبل عبدالله بن أم مكتوم، فكره رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ أن يقطع عبدالله عليه كلامه، فأعرض عنه، ففيه نزلت هذه الآية : "عَبَسَ وَتَوَلَّى {1} أَن جَاءهُ الْأَعْمَى {2} وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى {3} أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ الذِّكْرَى {4} أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى {5} فَأَنتَ لَهُ تَصَدَّى {6} وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى {7} وَأَمَّا مَن جَاءكَ يَسْعَى {8} وَهُوَ يَخْشَى {9} فَأَنتَ عَنْهُ تَلَهَّى {10} كَلَّا..."
إنه موقف ساخن؛ النبي _صلى الله عليه وسلم_ يتصدى لمن استغنى، ويتلهى عمن جاء يسعى وهو يخشى.. فينزل الله _عز وجل_ الآية مع موقفها.. لتكون أبلغ ما تكون.
وهكذا سبب نزول في قوله _تعالى_: "مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ "، وفي قوله _تعالى_: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَّكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ"، وفي قوله _تعالى_: "لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ..."
متى أبرق النبي _صلى الله عليه وسلم_ عن هدايا العمال؟ حين قدم بها ابن اللتبية.
متى أرعد النبي _صلى الله عليه وسلم_ في الشفاعة في حدود الله؟ حين شفع أسامة.
متى أغاث النبي _صلى الله عليه وسلم_ ببشائر النصر ودفع عجلة المستعجلين؟ حين شكى إليه خباب،
هكذا.. في مواقف تربوية ساخنة.
مثال أوضح وأشهر: اقرأ قصة أبي بكر _رضي الله عنه_ بعد وفاة النبي _صلى الله عليه وسلم_: في حديث ابن عباس _رضي الله عنهما_: أن أبا بكر _رضي الله عنه_ خرج وعمر _رضي الله عنه_ يكلم الناس، فقال: اجلس، فأبى، فقال: اجلس، فأبى، فتشهد أبو بكر _رضي الله عنه_، فمال إليه الناس وتركوا عمر، فقال: أما بعد، فمن كان منكم يعبد محمداً _صلى الله عليه وسلم_ فإن محمداً _صلى الله عليه وسلم_ قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت، قال الله _تعالى_: "وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللّهُ الشَّاكِرِينَ". والله، لكأن الناس لم يكونوا يعلمون أن الله أنزلها حتى تلاها أبو بكر _رضي الله عنه_، فتلقاها منه الناس، فما يسمع بشر إلا يتلوها، متفق عليه.
هذا أثر التربية الساخنة.. أثر التصرف المناسب في الموقف المناسب: " والله، لكأن الناس لم يكونوا يعلمون أن الله أنزلها حتى تلاها أبو بكر _رضي الله عنه_، فتلقاها منه الناس، فما يسمع بشر إلا يتلوها".
قلت لك قبل قليل: حين تلقي على إخوانك فائدة فهذا تلقين، ولكن حين تلقيها في الموقف المناسب لها فتلك تربية.
تطبيق:
هذه هي التربية الساخنة: ضربة تربوية في الموقف الساخن.
استعمل هذا الأسلوب في تربيتك.. ليس من الإتقان التربوي أن تتكلم عن أثر الحج وأنت في شهر رجب، وأن تتحدث عن طلب العلم والاختبارات على الأبواب، وأن تسهب في فضائل الإيثار والمال يسيل بين الأيدي.
الإتقان.. أن تتربص المواقف.. فالمصائب فرصة (ساخنة) لعتاب القلوب على الذنوب، والنعم فرصة (ساخنة) لبيان رحمة الله وغفلة العبد عن شكر المنعم، وشح المال فرصة (ساخنة) لتربية الإيثار، والفتنة فرصة (ساخنة) لتربية الناس على اللجوء إلى الله، والاعتصام بكتابه وسنة رسوله _صلى الله عليه وسلم_..
قال أحدهم:تعثرت بنا السيارة في أرض منقطعة وحر شديد؛ جاهدنا فلم نقدر، وحاولنا فلم نفلح، فبقينا ندعو الله ونلح عليه، ونسأله ونلجأ إليه، وشاء الله تعالى أن يفلح أحد الإخوة بتحريك السيارة والخروج من الأزمة.. ففرحنا..وأخذنا نمدح هذا القائد (الذكي) ( المتقن) ونشكره ونهزج له أهازيج..
يقول صاحبي: ولما ذهبت سكرة الفرح؛ قال شاب عاقل: ما أكفر الإنسان؛ نحن منذ اليوم ندعوا الله ونخلص له ونلجأ إليه؛ فلما أغاثنا شكرنا غيره..!
يقول صاحبي: فكانت هذه الكلمات كالضربة على قلوبنا، وكان تربية ساخنة؛ تربية لا توازيها عشرات الخطب التي تضرب في حديد بارد.
شاطئ:
بادر الفرصةَ واحذر فوتها | |
وابتدر مسعاك واعلم أن من |