الحزم اللطيف!!
19 صفر 1426

كنا قد وعدناكم في مقال سابق بإكمال الحديث عن عناصر "حل المشاكل بلا مشاكل"، والتي تتضمن سبع عناصر، هي:
أ – طوّل بالك. ب – اقبل ابنك بعيوبه.
جـ - الخطوات الخمس لحل مشكلة ابنك.
د – أسلوب "أنا" لحل مشكلتك. هـ - اعترف برأيه.
و – الحزم اللطيف. ز – دعه يتوهق.
ونحن اليوم مع العنصر قبل الأخير، والذي يتحدث عن أسلوب جميل في كيفية التخلص من مشاكل المراهقين:

العنصر السادس: الحزم اللطيف:
الآباء والأمهات يجيدون إعطاء الأوامر، لكنهم لا يوضحون ماذا سيعملون لو لم ينفذ ولدهم الأمر، يعني مثلاً يقول الأب: لا تنم عن صلاة الفجر، ويسكت دون أن يخبره بالعقاب في حال المخالفة، ويؤجل تحديد هذا العقاب وتنفيذه إلى أن يقع الخطأ، وهذا هو الخطأ، يجب أن يكون هناك وضوح مبكر في القانون أو النظام عقوبة مخالفته عند الأب وعند المراهق، وأنجح القوانين ما يشترك الأب وابنه في وضعه واختيار عقوبة مخالفته القوانين المبكرة تتميز بالحزم الصحيح في التربية، وحتى هذا الحزم يمكن تغليفه بطبقة من اللطف والاحترام كما يغلف الدواء المُرّ بطبقة من السكّر، كما فعل أبو مالك مع ابنه في وضع القانون المبكر لصلاة الفجر، فكان قانوناً حازماً مغلفاً باللطف والحب والرحمة، يقول أبو مالك لولده: يا مالك يقول الله _تعالى_: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ" (التحريم:6)، وأنا لا أرضى أن مالكاً أحب الناس عندي تمسه النار، لذلك أريد أن أساعدك في الانضباط في صلاة الفجر توافقني يا مالك قال: نعم. قال: طيب إذن نتفق على القيام لصلاة الفجر تتحمل مسؤولية الاتفاق. قال: إن شاء الله يا أبي. قال أبو مالك: ما العقوبة اللي تختارها لنفسك إذا نمت عن الصلاة؟ قال: تحرمني من الطلعة ذاك اليوم. قال أبو مالك: أنا أتوقع إنك تحافظ على الصلاة،لكن للاحتياط، هل توافق أنك إذا استمريت في النوم عن صلاة الفجر بعد هذه العقوبة، نجلس جلسة ثانية ونزيد العقوبات اتفقنا.. اتفقنا..

لو تأملنا القانون المبكر لوضع أبي مالك لوجدنا فيه بعض الفوائد التي يمكن أن نستفيد منها في القوانين المبكرة الأخرى.
الأب من البداية ربط الأمر بالله فجعل ابنه في مواجهة سلطة الدين والأمر الشرعي، وليس في مواجهة سلطة الأب وأمره الشخصي، وبالتالي نزع فتيل الاصطدام مع ابنه من البداية.
الأب عبر لابنه عن محبته الصادقة لما وصف ابنه بأنه أحب الناس، ومثل هذا الكلام العاطفي هو أفضل تمهيد لعقد الاتفاقات.
اعترف الأب أيضاً بإرادة ابنه ورأيه أثناء الحوار فقد كان يكرر سؤاله عن موافقته وعن رأيه يقول له: توافقني؟ ما رأيك اتفقنا؟
الأب حسس ابنه بالمسؤولية أكثر وأكثر لما أخذ موافقة مالك على القيام لصلاة الفجر وعلى تحمله مسؤولية الاتفاق، ومن أجمل ما في هذا القانون أن مالكاً اختار عقوبته بنفسه في حال المخالفة، وهذا يشعر الابن بالعدل، وهو من أهم مطالبه كمراهق هذا العدل يزيد التزامه بالاتفاق وقبول العقوبة في حال المخالفة.

من فوائد الحوار: أن الأب أشعر مالكاً بإحسان الظن فيه لما قال: أنا أتوقع منك المحافظة على الصلاة.
ومن فوائد الحوار الهامة: أن الأب جعل الابن يعرف أن باب زيادة العقوبات مفتوح في حال المخالفة وبموافقة الابن.

لا أشك أن أبا مالك إذا لاحظ على ابنه الالتزام بالاتفاق لن ينسى أن يكافئ ابنه بهدية أو زيادة في الحرية والصلاحية، لكنه لم يقل له حتى لا تتحول المكافأة إلى رشوة.
وأنا متأكد أنه سيختار هدية تناسب اهتمامات مالك الحقيقية، وإن لم تعجب الأب طالما أنها حلال.
ولن يختار لابنه الهدية التي يتمنى هو أن تكون من اهتمامات مالك، وهي ليست كذلك.
أنا واثق أن مالكاً سيحافظ على صلاة الفجر _إن شاء الله_؛ لأن الأب استخدم الحزم اللطيف من خلال القوانين المبكرة بالتفاهم والحوار.

حسناً. صلاة الفجر أمر شرعي يسهل على المراهق تقبله لكن هناك الكثير من الأمور الدنيوية ربما لم تصل مع ابنك إلى رأي مشترك وشعرت بضرورة وضرورة حقيقية لقانون، وهذا هو المهم عندها تبين له مبرارت وجود القانون، وتطلب رأيه وتبذل كل جهدك في حسن الاستماع وتقدير وجهة نظره، وهذا أساسي ولا يمنع أننا نقتنع بكلامه إن كان صحيحاً، وإن كان غير ذلك أعرض عليه سبب عدم اقتناعي ثم نضع القانون وأُخَيِّرُه بين أكثر من عقوبة وأنفذ العقوبة إذا خالف تخييره بين العقوبات يتركه يتقبل ويستجيب وما يعاند أو يحمل بقلبه عليك وهذه مهمة.

من الأشياء التي يمكن أن تضعها ضمن اختيارات العقوبة استرجاع ما أعطيته كعقاب سيارة مثلاً تسحب منه مؤقتاً أو نهائياً، قال رسول الله _صلى الله عليه وسلم_: "لا يحل لرجل أن يعطي عطيةً أو يهب هبةً فيرجع فيها إلا الوالد فيما يعطي ولده"، والحديث في صحيح الجامع الصغير، ومهما قال الباحثون والمختصون في المراهقة يتجلى تقدير الوالدين للأسلوب الذي يناسب ابنهم نظراً للفروق الفردية بين المراهقين.

هذه الاتفاقات وهذا الحزم اللطيف يحل نوعاً آخر من المشاكل الشائعة بين الآباء والأبناء عندما يلح المراهق بطلب شيء ما ويواجه بالرفض القاطع من والدته ووالده، ورغم شرح كل طرف لوجهة نظره يظل الخلاف قائماً، ويتسبب في خلافات أخرى أيضاً المبدأ الهام، هو: اسمح لابنك أن يدفع ثمن رغباته التي لا تعجبك، ونقصد طبعاً رغباته المباحة التي لا تصادم الشرع ابنك على استعداد على التضحية مقابل تحقيق هذه الرغبات المباحة التي قد لا تعجبك تماماً، تجده يعلن عن الاستعداد عندما يتعلق بشيء ويرفض طلبه، تسمعه يقول: طيب ماذا تريدون أعمل لكي توافقون؟ مستعد أن يدفع الثمن المطلوب هنا أن يفكر الأب في المكاسب التي يمكن أن يحققها قبل أن يرفض رفضاً قاطعاً نهائياً على سبيل المثال يقول الأب: إذا رتبت غرفتك أو مثلاً المستودع على الترتيب الذي أقوله لك، أسمح لك أن تخرج مع زملائك فلان وفلان هذه الطلعة التي تريدها، يكون الأب محدداً تفاصيل ما يريد، فيقول: ضع ثيابك المستخدمة في الغسالة، الكتب والمجلات على الرفوف، الأوساخ في الزبالة، الأوراق في الكرتون الخاص بالورق، لا تضع شيئاً تحت السرير، ونظف الأرضية بالمكنسة الكهربائية ، وسأرى ترتيبك _إن شاء الله_ بعد صلاة العشاء.

ذكر الدكتور إبراهيم الفارس في محاضرة (الوسطية في تربية الأولاد) قصة أحد الآباء جعل أبناءه يدفعون ثمن رغبتهم التي لا تعجبه، اشترط على أبنائه الصغار حفظ حديث واحد من الأربعين النووية لكل يوم يريدون أن يلعبوا فيه بجهاز السوني بلاي ستيشن في المدة المخصصة، وهي من عودتهم من المدرسة إلى صلاة العصر بعدها يكونون في حلقة تحفيظ من لا يحفظ لا يلعب ذلك اليوم، فكان الأبناء يحرصون على حفظ الحديث المطلوب حتى في وقت الاستراحة المدرسية لئلا تفوتهم فرصة اللعب، فحفظوا الأربعين النووية في أربعين يوماً، هذا الأب وظف تعلقهم بهذه اللعبة السلبية بما يعود عليهم بشيء إيجابي، وإن كان هناك تحفظات شرعية على هذه اللعبة أساساً فضلاً عن التحفظات التربوية أحياناً يلح المراهقون على السماح لهم بقيادة السيارة ويرفض الوالدان رفضاً قاطعاً وتبدأ المشاكل، يمكن أن نصل لحل وسط يرضي الطرفين بجعل الابن يدفع ثمن هذه الرغبة إذا كنا لا نريدها في موضوع السيارة هناك اعتبارات ،مثل: السن والقدرة على القيادة وتوافر السيارة، يمكن أن تترك بين مدة وأخرى إذا كانت هذه الأمور مهيأة يمكننا تحديد ثمن لهذه الرغبة فيحول جهده من الإلحاح على والديه وإزعاجهم إلى الإلحاح على نفسه بتحقيق ما طلب منه مقابل قيادة السيارة ليكن الأمر معقولاً لا يشعره باليأس، ولا تحاول تعجيزه، مثلاً يقول الأب: كل وجه تحفظه من القرآن تأخذ مقابله السيارة من بعد صلاة العصر إلى قبيل المغرب، وإن سمّعت بدون خطأ تمدد المدة إلى قبيل صلاة العشاء على شرط أن تذهب بأهلك لحاجتهم، وتقضي مشاوير البيت بين مدة وأخرى مهما كانت مشاوير البيت كثيرة، الفرق بين هذا الأسلوب وبين الرشوة: أنه في هذا الأسلوب يدفع ثمناً لإشباع دوافعه، أما الرشوة فهو يتلقى ثمناً لإثارة دوافعه، الرشوة تحطم الشعور بالمسؤولية، أما هذا الأسلوب فهو ينمي الشعور بالمسؤولية، وهذا ما سيحدثنا عنه العنصر السابع من عناصر حل المشاكل، والذي سيتم الحديث عنه –إن شاء الله- في المقال القادم والأخير ضمن حلقات هذه السلسلة.