القدوة.. وبكاء حكيم
15 ربيع الأول 1426

للقدوة الصالحة دور كبير في توجيه الناس وبناء المجتمع، فصفات الشخص القدوة يراها الناس فيتأثرون بها، ويتبعونه فيها؛ لأنهم رأوها صفات صالحة متميزة، وتظل صفات الشخص القدوة مؤثرة كلما استحضرها الناس بين الحين والحين، وتكون حافزاً لهم إلى الصلاح والعمل والنجاح.

وقد حرص الإسلام على استثمار هذه الوسيلة، ورفع من شأن من يستحقون أن يكونوا قدوة للمجتمع، ليهتدي الناس بهداهم، ويسيرون بسيرتهم، فجاءت آيات وأحاديث تحث على الاقتداء بأهل القدوة الصالحة.
ولأن أمر القدوة خطير وعظيم، لما له من تأثير كبير في المجتمع، وفي الكبير والصغير والرجال والنساء، ولا سيما النشء والشباب؛ وضع الإسلام لنا صورة واضحة لمن يستحق أن يُـرفع إلى مقام القدوة في الناس، ويستحق أن يهتدي الناس بهداهم، وبين لنا الصفات التي يجب أن تتوافر فيمن يتخذه الناس قدوة.

وأساس الصفات للشخص القدوة هو الإيمان والهدى والصلاح، وأولى الناس بتلك المكانة هم الأنبياء _عليهم السلام_، قال _تعالى_: "أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ" (الأنعام: 90).

قال الطبري: "يقول _تعالى ذكره_: (أُولَئِكَ): هؤلاء القوم – الأنبياء المذكورون قبل هذه الآية - الذين وكلنا بآياتنا وليسوا بها بكافرين، هم الذين هداهم الله لدينـه الحقّ، وحـِفْظ ما وُكـِّـلوا بحفظه من آيات كتابه، والقيام بحدوده واتباع حلاله وحرامه، والعمل بما فيه من أمر الله، والانتهاء عما فيه من نهيه، فوفقهم _جلّ ثناؤه_ لذلك.
"فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ": يقول - تعالى ذكره -: فبالعـمل الذي عملوا، والمنهاج الذي سلكوا، وبالهدى الذي هديـناهم، والتوفيق الذي وفقـناهم؛ اقتـده يا محمد: أي فاعمل وخذ به واسلكه، فإنه عملٌ للَّه فيه رضا، ومنهاجٌ من سلكه اهتدى..." (تفسير الطبري، سورة الأنعام).
وقال البغـوي: ("أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ هَـدَى اللّهُ"؛ أي: هداهم الله، "فَبِهُدَاهُمُ"؛ فبسنـتهم وسـيرتهم – "اقْتَدِهْ" -).

وقال - سبحانه – يرشدنا إلى قدوتنا وأسوتنا لكي نسير على نهجه ونهتدي بهداه: "لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً" (الأحزاب: 21).
وأرشدنا الرسول _صلى الله عليه وسلم_ إلى نماذج من القدوة الصالحة في الدين، من الصحابة الكرام، لنتبع نهجهم ونستن بسنتهم، كما في حديث: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين عضوا عليها بالنواجذ" رواه أبو داود والترمذي، فوصفهم الرسول _صلى الله عليه وسلم_ بالراشدين المهديين إبرازاً لأساس القدوة فيهم، وهو أنهم أفضل الناس رشداً وهدى في الدين، ولذلك حث على الاقتداء بهم.

وأخرج الترمذي عَن حُذَيْفَة قَالَ: "كُنّا جُلُوساً عِنْدَ النّبيّ _صلى الله عليه وسلم_ فَقَالَ: إنّي لاَ أدْرِي مَا قَدْرُ بَقَائِي فِيكُمْ فَاقْتَدُوا باللّذَيْنِ مِنْ بَعْدِي. وَأَشارَ إِلى أبي بكْرٍ وَعُمَرَ، وَاهْتَدُوا بِهَدْيِ عَمّارٍ. وَمَا حَدّثَكُم ابنُ مَسْعُودٍ فَصَدّقُـوهُ"، (سنن الترمذي، حديث رقم 3959، ورقم 1233 في السلسلة الصحيحة، المجلد الثالث).

قال المباركفوري في شرح الحديث: (قوله: (اقتدوا باللذين من بعدي)؛ أي بالخليفتين اللذين يقومان من بعدي (أبي بكر وعمر)... أي لحسن سيرتهما وصـدق سريرتهما... (واهتـدوا بهدي عمار)؛ أي ابن ياسر. والهدي - بفتح الهاء وسكون الدال- السيرة والطريقة، والمعنى أي سيروا سيرته، واختاروا طريقته، وكأن الاقتداء أعم من الاهتداء حيث يتعلق به القول والفعل، بخلاف الاهتداء فإنه يختص بالفعل).
قال المناوي: (وسبب الحث على الاقتداء بالسابقين الأولين ما فُـطروا عليه من الأخلاق المـرْضـية... فلذلك كانوا أفضل الناس بعد الأنبياء).

القدوة في مجتمعاتنا المعاصرة:
وعلى الرغم من خطورة شأن القدوة، وأنه لا يصح أن يوضع في مقام القدوة إلا أهل الهدى والصلاح؛ تجد في مجتمعات المسلمين فئات من العلمانيين أو المتأثرين بالمنهج العلماني، يزيفون للناس رموزاً يعظمونها ويرفعونها إلى مكان القدوة، وهي من أكبر الشخصيات هدماً للدين، فيرفعون شخصيات، مثل: قاسم أمين الذي كان سبباً من أسباب تدهور أخلاق المجتمع حينما نادى بتحرير المرأة، أو زعامات مزيفة، مثل: كمال أتاتورك أكبر علماني في القرن العشرين سعى في هدم الدين ومحوه، ومع هذا تجد الفئات العلمانية المتسلطة في تركيا تجعله رمز الحرية والانتصار والشجاعة والقدوة.

وتجد كثيراً من المستشرقين خصوصاً - والغرب عموماً - يرفعون من شأن شخصيات ضالة أو ذات منهج منحرف، سواء من الماضي أو الحاضر، ويعيدون نشر تراثها ليفتحوا بها باب فتنة على المسلمين، وتصير هي القدوة في حياتهم وثقافتهم، ويجعلون منها العلامات البارزة في تاريخ الأمة الثقافي أو الأدبي وغيره، فتجدهم يرفعون مثلاً من شأن الحلاج، وجماعة إخوان الصفا، والمعتزلة، وابن عربي، والسهروردي، ويصورونهم كأنهم أعلام الأمة، ويتجاهلون في الوقت نفسه أعلام الأمة من أهل الفضل والعلم والصلاح، وقد يتعمدون تشويه صورتهم وإثارة الشبه حولهم.

وقد تأثر بالمستشرقين عدد من الباحثين والأدباء العرب وغيرهم، فساروا على نهج المستشرقين في تعظيم تلك الشخصيات والجماعات، ولم يتخذوا منهجاً علمياً منصفاً في وزن تلك الشخصيات والتيارات، يميز الخبيث من الطيب للناس، بل عملوا برأي المستشرقين مباشرة، فتجد مثلا كاتباً أديباً يؤلف مسـرحية لتخليد ذكرى الحلاج الحسين بن المنصور الذي قتل بسبب قوله: "أنا الحق" يقصد الله، ويُظـهره فيها بمظهر المظلوم المقهور، وعرضت هذه المسرحية عدة مرات. وكما حاول بعضهم إبراز ابن رشد الفيلسوف في فيلم، مسقطاً قصته مع العلماء على الواقع، ومصوراً علماء الدين في صورة المتحجر المتعصب الذي يكره انطلاق الفكر وتحرير العقل.

وفي جانب آخر، وهو جانب الثقافة الشعبية الاجتماعية، تجد اليوم أهل الغناء والتمثيل والتهريج، هم الذين يوضعون رغماً عن الناس في مكان القدوة، فحياة الممثل ومأكله ومشربه وملبسه وأول أخباره وآخر أخباره، وعلاقاته الغرامية.. حتى موته، هي الأمور التي ترفع في مكان القدوة للناس في كثير من وسائل الإعلام. وصار السؤال الذي يوجه في المجلات ووسائل الإعلام في ختام برامج الحوار: من هو ممثلك المفضل؟ من هو المغني أو المغنية المفضلة عندك؟ ولم يقف العبث عند هذا الحد بل تجد لدى بعض الشباب القدوة شخصاً من فسقة الكفار وماجنيهم.

والخطير في ذلك ليس مجرد تشبه الشباب بهذا الممثل أو ذاك المغني أو تلك المغنية في الملبس والشكل، بل هو وضع هؤلاء في مكان ذي الرأي والمشورة فيؤخذ برأيه أو رأيها في كل شيء حتى في الأحكام الشرعية.

صناعة.. القدوة:
كان الناس في الماضي يعرفون القدوة الصالحة بعلمه أو صلاحه أو حسن سمته وأخلاقه، وكان هذا هو المعيار والميزان في معرفة القدوة من غيره، ولذلك قلّ انخداع الناس بالقدوات المزيفة والمزورة في الماضي.
وأما بعد التقدم الذي أحرزته البشرية في وسائل الاتصال والإعلام، فقد تغيرت الأحوال كثيراً، وصار عدد غير قليل من وسائل الإعلام ببريقها ومؤثراتها الكثيرة القوية تزيف الحقائق، وتصنع من الرموز ما تريد، عن طريق التلميع الإعلامي الخادع، فترفع من ترغب في رفعه ولو كان فاسقاً من أرذل الناس، وتضع من ترغب في وضعه ولو كان تقياً من أفاضل الناس.

وهذه ورطة كبيرة للأجيال الناشئة، حيث يقفون حائرين بين تلميع الإعلام لشخصيات فاسدة، وبين ما يسمعونه من حقيقة تلك الشخصيات، ولا يجدون من يدلهم على المعايير الصحيحة للقدوة، ويميز لهم الصالح من الطالح من بين هذا الكم العظيم من الركام الإعلامي من النجوم والمشاهير.

حماية منزلة القدوة..:
القدوة تؤثر في قطاع كبير من الناس، فهي محرك نفسي عظيم في المجتمع، لا يقل دوره عن باقي العوامل المشاركة في بنـية المجتمع وتقدمه، فحينما نضع أمام المجتمع الشخصيات الصالحة والناجحة ليقتدي بها الناس، فسيعود ذلك على المجتمع بتأثير إيجابي كبير، فيكثر الصالحون والعلماء والناجحون ويقوى المجتمع ويتقدم؛ وحينما تكون القدوة من أهل الفساد والسفهاء والفساق وأهل المجون؛ فسيكثر الفساد، وتتربى الأجيال على شاكلة النماذج التي اتخذوها قدوة، فيزداد المجتمع ضعفاً، وتتسارع إليه عوامل الانهيار.

ولذا فمسؤولية المجتمع كبيرة في حماية مكانة القدوة، وقصرها على أهلها من الصالحين، ورفض كل قدوة سيئة وحماية الأجيال منها، فلا ينبغي إذن أن نترك تلك المكانة الشريفة والمنزلة الرفيعة لأهل الفساد يعبثون بها كما يشاؤون، والموقف الإيجابي إزاء ما نراه من عبث بهذه المنزلة هو تفعيل عملية الإحياء لمكانة القدوة الصالحة، وبذل مزيد من الجهد في إبراز قدوات الأمة الحقيقيين، من الأنبياء والصالحين، ومن أهل الصلاح والتقوى، ومن أهل الخير والنفع وتقديم الخدمات الجليلة للأمة، ومن أهل العلم في كل مجال من دين وطبيعة وطب، وإبرازه صفاتهم ومميزاتهم وهديهم، بشتى وسائل المعرفـة والاتصال بالناس من كتب وصحف وبرامج وغيرها، ولا سيما الموجهة إلى النشء.

وفي الوقت نفسه نجتهد في التحذير من تلك الجهات التي ترفع من شأن المنحرفين، من صحف ومجلات وقنوات، حتى لا يتمكن أهل الفساد من الوصول إلى منزلة القدوة في المجتمع، كما تشير بذلك الآية الكريمة في قوله – تعالى -: "وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ" (البقرة: 124).

قال ابن جرير: "قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ": هذا خبر من الله _جل ثناؤه_ عن أن الظالم لا يكون إماماً يقتدي به أهل الخير؛ لأن الإمامة إنما هي لأوليائه وأهل طاعته دون أعدائه والكافرين به..."، (تفسير الطبري، سورة البقرة).

حكيم بن حزام - رضي الله عنه – يبكي بسبب القدوة الفاسدة:
إن أثر القدوة الفاسدة خطير، فقد يضل من يتبع القدوة الفاسدة ويقلدها، أو تؤدي به إلى التأخر أو التخلف عما فيه خيري الدنيا والآخرة، وضياع العمر والوقت، قال عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما -: "لا يزال الناس بخير ما أَخذوا العلم عن أَكابرهم، فإِذا أَتاهم من أَصاغرهم فقد هلكوا"، قيل: "الأَكابر أَهل السـنّة، والأَصاغر أَهل البدع. قال أَبو عبيد: ولا أُرى عبد الله أَراد إِلا هذا".

وقد بكى حكيم حزام - رضي الله عنه - يوماً على أنه اتبع قدوات سيئة كانت في مجتمعه، وأضاعت عليه خيراً كبيراً، وفاتته فرصة عظيمة، وهي شرف الإسلام مع من أسلم مبكراً، قال ابن الجوزي في صفة الصفوة: "إن حكيم بن حزام بكى يوماً، فقال له ابنه: ما يبكيك؟ قال: خصال كلها أبكاني، أما أولها: فبطء إسلامي حتى سُـبقت في مواطن كلها صالحة... وذلك أني أنظر إلى بقايا من قريش لهم أسنان – رجال كبار السن - متمسكين بما هم عليه من أمر الجاهلية؛ فأقتدي بهم، ويا ليت أني لم أقتد بهم، فما أهلكنا إلا الاقتداء بآبائنا وكبرائنا، فلما غزا النبي _صلى الله عليه وسلم_ مكة جعلت أفكر... فجئته فأسلمت – يعني أسلمت متأخراً –" (صفحة: 162).