التربية السليمة هي تنمية جميع جوانب شخصية الإنسان، دون طغيان جانب على آخر، وهي عملية مستمرة مدى الحياة، فهي بذلك ميكانيزم يحتل الفضاء الزماني والمكاني لكل إنسان يدب على الأرض، وهذه الفلسفة التربوية الشاملة والكاملة تنطبق بامتياز على النظرية التربوية الإسلامية.
إن التربية الإسلامية تنظر للإنسان ككائن متكامل، الغاية من وجوده توحيد الله وعبادته، ولا يمكن أن تتحقق هذه الغاية السامية، إلا بإعداد المسلم إعداداً يأخذ بعين الاعتبار الجانب الروحي والعقلي والخلقي والجسمي، ويتفرع عن هذه الأربعة كل الجوانب الأخرى كالتربية الجمالية و السياسية و الاجتماعية و البيئية...إلخ.
هذا على الأقل من الناحية النظرية، لكن من المُلاحظ في الواقع أن النظام التربوي (من الإعدادية إلى الدكتوراه) في العالم الإسلامي لا يراعي هذه الشمولية، التي تختص بها النظرية التربوية الإسلامية، ولا أريد هنا أن أسرد مظاهر التقصير في تنمية كافة جوانب شخصية المسلم، لكنني أكتفي بالإشارة إلى قضية خطيرة باتت تُميز النظام التربوي في العالم الإسلامي، وهي الخلل التربوي المتمثل في تزايد الفجوة بين تقديم المعرفة المجردة و غرس القيم التربوية.
يعتقد كثير من المتحكمين في زمام التربية، في عالمنا الإسلامي، أن الهدف من المدرسة والجامعة هو تقديم المعارف والمعلومات للتلميذ والطالب فحسب، كما يعتقدون أن تعليم القيم المختلفة هي من مهمة مؤسسات اجتماعية أخرى، كالأسرة ودور العبادة...وان هذا الاعتقاد الخاطئ هو المُطبق فعلاً في مؤسساتنا التعليمية، إذ صارت مقاعد الدراسة مكاناً يُحشى فيه عقل المتعلمين بالمعارف والمعلومات، حتى أضحى أولئك المتعلمون أشبه بأجهزة الحاسب، التي لا يتعدى دورها تسجيل تلك المعلومات داخل الدماغ، وتفريغها عند الحاجة على ورقة الامتحان، هذه الطريقة أفقدت المتعلم إنسانيته، وحولته بالتدريج إلى مجرد قرص مرن أو مدمج يُخزن ويعرض البيانات والمعطيات المجردة.
وعلينا أن نتصور الإنسان المسلم المتخرج من هذا النوع من التعليم، عندما نفاجئ بأن حتى المؤسسات التربوية المعول عليها في تنمية القيم المختلفة، هي نفسها مقصرة أشد التقصير في هذه المهمة، فبالنسبة للأسرة، فهي لم تعد تملك حتى الوقت القليل للاهتمام بتربية أبنائها، بسبب انشغالها بتوفير سبل العيش، في عالم إسلامي تزداد فيه الظروف الاقتصادية تدهورا، مما يدفع بالأبوين معا، للعمل خارج البيت لساعات طويلة، إضافة إلى أن كثيراً من الأبوين، أنفسهم، لا يملكون مخزوناً متوازناً من القيم يقدمونه لأولادهم، وفاقد الشيء لا يعطيه.
أما المسجد، فهو يواجه في كثير من البلدان الإسلامية حصاراً من النظام السياسي، مما يشل نشاطه التربوي، وقد تحولت كثير من المساجد إلى جدران تُتلى فيها الخطب والعظات، التي لا تترك أي أثر تربوي، كما أن متابعة متفحصة للقائمين على هذه المساجد، يُصدم من الرداءة التي تميز هذا القطاع، فالتربية المسجدية توكل إلى أُناس يشترط فيهم حفظ القرآن ومعرفة بعض فقه الصلاة، وفي أحسن تقدير إلى بعض خريجي المعاهد الدينية، الذين هم نسخة من الأقراص المدمجة التي تحدثنا عنها في السابق.
هذا باختصار، وتأتي مؤسسة تربوية أخرى، لكنها تخريبية، وأقصد بها وسائل الإعلام، وهي في أغلبها مؤسسة تعمل على تدمير القيم الإسلامية، بدل تنميتها أو تعزيزها، كما أنها تُكرس الاستلاب والتغريب، الذي يهدف إلى تأجيج العداوة بين المسلم وقيمه الأصيلة، وبرامج هذا الإعلام، كثيراً ما تطعن في القيم الدينية، وتصمها بنعوت التخلف والرجعية والتحجر.. وتعرض القيم الغربية الفاسدة في أبهى صورة، وتصفها بالقيم الحضارية والعالمية والمتفتحة والعصرية والتقدمية والمتحررة والإنسانية !!! وإذا كان الأطفال، مثلاً، يقضون من خمس إلى عشر ساعات يومياً أمام التلفاز - حسب ما تذكره الدراسات العلمية- يمكننا تخيل حجم التأثير السلبي على القيم الإيجابية التي بحوزتهم، التي تُضاف إلى التأثيرات الأخرى، لتربية الشارع والنادي والملعب...، التي هي في الأعم تنشر قيماً السلبية، إلا في ما ندر.
فلا مناص إذا من العودة للتربية الرسمية والمقصودة، وهي التربية المدرسية، التي عليها أن تلعب دوراً رئيساً في ترسيخ القيم الإيجابية في المتعلمين بالتوازي مع ما تقدمه من معارف، أما ما هو موجود حالياً في بعض المناهج، على تفاوت بين الدول الإسلامية من قيم إيجابية، فهي باهتة وغير كافية، ولا يكاد الصالح منها يُسمع صوتُها وسط جلبة وضجيج القيم السلبية التي تحيط بالفرد من كل جانب.
لذلك لم يعد الملاحظ يستغرب من السلوكيات والتصرفات لخريجي المدارس في العالم الإسلامي، وهي سلوكيات تدل بوضوح أن المسلم يفتقر إلى القيم الإيجابية التي تجعل منه إنساناً إيجابياً في مجتمعه، بل كثيراً من المتعلمين اليوم صاروا يتصرفون تصرفات لا يسلكها عوام الناس ممن سلمت سريرتهم من الأمراض.
ومن أمثلة ذلك بتنا نسمع بمهندسين في البناء والعمارة، يشيدون العمارات والمباني، سرعان ما تنهار على ساكنيها أو تتصدع من كل جانب، بسبب غش أولئك المهندسين وعدم تقيدهم بمعايير البناء القانونية، وهم بفعلهم هذا رجاء الربح المادي، الذي يُعرض الأموال للضياع والأنفس لخطر الموت، فأين القيم التي تعلموها على مقاعد كليات الهندسة؟
من الأمثلة كذلك، الأطباء، وقد رأيت وسمعت وقرأت عن جراحين لا ضمير لهم ولا تقوى، يوهمون مرضاهم بأنهم يعانون أمراضاً لا يتعافون منها إلا بإجراء جراحة، وإن بعض أولئك الجراحين يجرون جراحات على مرضاهم بشق سطحي على البطن تظهر من بعده غرز الإبر، كأنهم أجروا فتحاً حقيقياً، لكن شيئاً من ذلك لم يكن، ويدفع المريض مالاً جمعه بشق الأنفس، مقابل عملية جراحية وهمية، فماذا كان يتعلم هؤلاء على مقاعد كلية الطب؟
المحامون، وما أدراك ما المحامون !!..فثمة قصص وروايات في العالم الإسلامي كله عن تلاعبهم في القضايا واستنزافهم لموكليهم، حتى وان كانوا من أفقر الناس..فماذا تعلم هؤلاء في كلية الحقوق؟
لا شك أن هناك من لا ينتمي إلى هذه الفئات المريضة، وهم كثر، فماذا عسانا نفعل إذا كان واحد يبني ومئة يهدمون؟
و مما يدفعني أكثر للكتابة في هذا الموضوع، والإشارة إلى هذه الظاهرة التربوية التي استفحلت، هو وصولها إلى المعاهد والكليات والجامعات الإسلامية، و من المفروض أن يكون خريجو هذا النوع من التعليم، على قدر كبير من المعرفة الدينية الإسلامية، ويتمتعون بثروة من القيم الإسلامية الإيجابية، لكن هل هذا هو الواقع؟
دون تعميم، الجواب لا، وقد نبه علماؤنا قديماً وحديثاً على ضرورة تزويد طلاب العلم الشرعي بالقيم الإسلامية الرفيعة التي تجعل منهم قدوة، وأن عليهم العمل بما يقولون، وألا تبقى معلوماتهم الشرعية حبيسة الذاكرة، و أن تظهر ثمارها على جوارحهم، وعلى طالب العلم أن يتحلى بالقيم المستحبة والإيجابية، كالصدق وحب العمل وإتقانه والشجاعة واحترام الآخرين وعفة اللسان والمحافظة على الوقت...وغيرها من القيم.
لكن كثيراً من أولئك – إلا من رحم الله – يُضيعون أوقاتهم في تجمعات لا هدف منها إلا علك الكلام، والطعن في العلماء والدعاة والعاملين في حقل الدعوة ، ولم يسلم منهم حتى من علمهم وحشا عقولهم بالمعرفة في الصف الدراسي.
وقد شاع في بعضهم حب البطالة فهنئوا بالصدقة، يترفعون عن المهن اليدوية؛ لأنها عيب في حقهم، لأنهم كأنهم لم يُخلقوا إلا لمهنة الإفتاء والتوجيه وتصنيف الناس و تبديعهم وحتى تكفيرهم، أما البعض الآخر ممن يُحشى دماغه بالكتب والمتون والأسانيد، دون قيم تصحب ذلك فقد صاروا وبالاً على الصحوة والدعوة، ويعلم الله كم مرة سمعت الشيخ أحمد حُطيبة في الإسكندرية يقول لطلبة العلم: "إن سيرتنا صارت سوداء بين الناس".
كما أتذكر قبل سنوات أن بعض من فاضت ذاكرته بالمتون والأسانيد والدراية والرواية..كانوا يسطون على تأليفات الغير وينسبونها لأنفسهم، بلا قيم ولا خلق، وقد تفاقم ذلك السطو المنظم حتى وصلت رائحته الآسنة إلى صفحات الجرائد اللا دينية، بل والى المحاكم العلمانية، مما أثار شكوكاً وتساؤلات في تلك الأوساط عن القيم التربوية التي تلاقها أولئك، والتعليم الذي خضعوا له.
هذه بعض الأمثلة فقط، ولا أريد من طرح هذه القضية التربوية على المهتمين مجرد التهويل، ولأقول "هلك الناس"، وإنما لأشير إلى أن التحديات الدولية خطيرة، والنظام العالمي يسير نحو فرض المعرفة والقيم التربوية الغربية، ولن تكتفي العولمة بابتلاعنا سياسياً واقتصادياً، وإنما أخبث ما في العولمة بُعدها التربوي والثقافي والقيمي، ولقد بدأت بالفعل تبرز تشوهاتها في كثير من مجتمعاتنا الإسلامية، أتمنى أن يتنبه الساسة والمربون والعلماء والدارسون إلى هذه القضية ويعطوها جهداً كافياً من البحث والدراسة وتقديم الحلول، وإذا لم نُعد النظر في منهجنا التربوي برمته، والموازنة بين غرس القيم بقدر تنمية المعرفة، فستصبح الأجيال المسلمة القادمة عاجزة عن فرض وجودها، السياسي والاقتصادي والحضاري، مقابل الوجود الغربي اللبرالي الصليبي، مما يعني تحقق نبوءة فرنسيس فوكوياما "بانتهاء التاريخ".