نخطئ كثيراً عندما نظن أن أسلوباً واحداً في الخطاب هو الأسلوب المناسب لجميع الناس للتأثير فيهم وحثهم على الإيمان والعمل, كما يخطئ آخرون إذ يظنون أن طريقة واحدة هي الشدة في توصيل المفهوم وبيانه بالطريقة الخطابية وجمع كل الأدلة له أمام السامع هي الطريقة المثلى التي تجمع القلوب وتغير القناعات..
إن الناس طوائف مختلفة وجماعات شتى وثقافات متباينة وانتماءات متكاثرة وعقليات متفاوتة وعادات وتقاليد عديدة.. ومن ظن من الدعاة أنه يستطيع أن يهمل كل هذه الاعتبارات ويختزل طريقة الدعوة إلى الناس أجمعين في طريقة يظنها جديرة بذلك مهملاً عقول الناس وطاقاتهم واستيعابهم وفهمهم, فنحن ههنا نبين له مجانبته للصواب, كما نبين له كيف كان _صلى الله عليه وسلم_ (وهو معلم البشرية جمعاء) ينوع أسلوبه ويختار ما يناسب عقول الناس، بل ويأمر أتباعه من الدعاة إلى الله بمخاطبة الناس على قدر عقولهم..
كونوا ربانيين..
الداعية إلى الله حكيم حليم عاقل هدفه الوصول إلى قلوب الناس قبل عقولها؛ لأنهم لو أحبوه وآمنوا بما يقول فسيِعملون عقولهم في كلامه إعمال القابل الراضي لا إعمال الرافض الساخط..
والداعية إلى الله يتعامل مع العقول حسب مقدرتها لا حسب مقدرته، ولا يحملها فوق طاقتها. وقد فهم ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ قول الله _تعالى_: " ولكن كونوا ربانيين " فقال: (كونوا حلماء فقهاء) وقال البخاري: (ويقال: الرباني الذي يربي الناس بصغار العلم قبل كباره) والبدء بصغار العلم مرجعه مراعاة العقول حتى لا تنفر من الدعوة. قال ابن حجر: (والمراد بصغار العلم ما وضح من مسائله، وبكباره ما دق منها) فتح الباري 1\162
وربانية الدعوة إلى الله لا تتم بمجرد تبليغ الأحكام والأدلة فقط وإنما باتخاذ الوسائل الحكيمة للوصول إلى هداية الناس, ويشهد لهذا الأصل من أصول الدعوة كثير من النصوص نذكر منها:
1ـ ساق البخاري حديثا ترجم له بقوله: (باب من ترك بعض الاختيار مخافة أن يقصر فهم بعض الناس عنه فيقعوا في أشد منه. ثم أخرج من طريقه إلى " الأسود " قال: " ابن الزبير ": (كانت عائشة تسر إليك كثيراً، فما حدثتك في الكعبة؟ قلت: قالت لي: قال النبي _صلى الله عليه وسلم_: يا عائشة، لولا قومك حديث عهدهم … ـ قال ابن الزبير: بكفر ـ لنقضت الكعبة فجعلت لها بابين باب يدخل الناس وباب يخرجون.قال ابن حجر ـ رحمه الله ـ (ويستفاد منه ترك المصلحة لأمن الوقوع في المفسدة) فتح الباري 1\224 واعتبر كثير من العلماء هذا الحديث وغيره من أعمدة الموازنة بين المصالح وأنه لابد من تقييم قدرة فهم السمع للعلم والدليل خوفا من الوقوع بما هو أشد لقصور فهمه عنه..
2ـ وقال البخاري ـ رحمه الله ـ (باب من خص بالعلم قوما دون قوم كراهية ألا يفهموا، وقال " على " حدثوا الناس بما يعرفون، أتحبون أن يكذب الله ورسوله). قال ابن حجر ـ رحمه الله ـ وممن كره التحديث ببعض دون بعض، أحمد ومالك في أحاديث الصفات. وأبو يوسف في الغرائب، ومن قبلهم أبو هريرة في الجرابين، وأنه كره أن يحدث بأحدهما ونحوه عن حذيفة، وعن الحسن أنه أنكر تحديث " للحجاج " بحديث العرانيين؛ لئلا يتخذها وسيلة إلى ما كان يعتمده من المبالغة في سفك الدماء بتأويله الواهي)
3ـ وأخرج الأمام مسلم عن ابن مسعود قوله: (ما أنت محدثا قوما حديثا لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنه).
4ـ وأخرج البخاري (إن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "يا معاذ بن جبل قال: لبيك يا رسول الله وسعديك قال: يا معاذ. قال: لبيك يا رسول الله وسعديك (ثلاثاً) قال: ما من أحد يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله من قلبه إلا حرمه الله على النار. قال: يا رسول الله: أفلا أخبر به الناس فيستبشرون؟ قال: إذن يتكلوا". وأخبر بها معاذ عند موته تأثماً). وكأن رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ قد رأى أنه ليس كل الناس يحسن معهم الإبلاغ بذلك المعنى المهم لئلا يحملهم على القعود عن العمل بفهم خاطئ, ولكنه قد اختص به بعض أصحابه الذين تحمل عقولهم القدرة على ذاك الفهم والاستيعاب وتقدير المراد من الخطاب.
مبررات الحديث الحكيم..
إن المستمع إذا ما تلقى علماً لا يستوعبه أو أن حدود تجاربه الحيوية وطبيعته النفسية والحياتية وقدراته الفهمية والثقافية ومدركاته العقلية لا تستطيع إدراكه فإنه يؤدي به إلى عدم التوازن, يقول الغزالي في إحيائه: " أن يقتصر بالمتعلم على قدر فهمه فلا يلقى إليه مالا يبلغه عقله فينفر أو يخبط عليه عقله, ولذلك قيل: كل – بكسر الكاف – لكل عبد بمعيار عقله وزن له بميزان فهمه حتى تسلم منه وينتفع بك وإلا وقع الإنكار لتفاوت المعيار " (إحياء1\57)
ومبررات الخطاب الحكيم المناسب كثيرة متعددة نذكر بعضاً منها للدلالة لا للحصر:
1- من أجل عدم انفضاض الناس من حول الدعاة, فالأسلوب الذي لا يناسب المستمع والذي ينفره يجعلنا نخسر كثيراً من المدعويين الذين قد تكون قلوبهم وصدورهم على استعداد لسماع والهداية, والطريقة العلمية المركزة وجمع الأدلة كلها وسوق التعليقات والردرد والشبهات وتفنيدها وغيره قد لا يناسب بعض المدعويين، بل قد يجر الملل والسأم إليهم، وبالتالي يفقد العلم هيبته يقول في (عيون الأخبار): إن العالم الحكيم يدعو الناس إلى علمه بالعمل والوقار وإن العلم الأخرق يطرد الناس عن علمه بالهذر والإكثار.
2- الأمان من الخطأ: فإن كثرة الحديث تورد الخطأ والالتباس عند الناس وفي القلة والتركيز والتيسير والتسهيل أمان من ذلك فكثرة الكلام ينسي بعضه بعضا وقد أور الإمام مسلم في مقدمة صحيحه قول النبي _صلى الله عليه وسلم_: " كفى بالمرء كذباً أن يحدث بكل ما سمع..".. وقد علق الإمام النووي على ذلك بقوله: ففيه الزجر عن التحديث بكل ما سمع الإنسان, فإنه يسمع في العادة الصدق والكذب, فإذا حدث بكب ما سمع الإنسان فإنه يسمع في العادة الصدق والكذب فإذا حدث بكل ما سمع فقد كذب " شرح مسلم 1\75
3- ..اختلاف أصناف الناس: فالناس أصناف: أولهم العوام غير المتعلمين، والتعامل معهم ودعوتهم تحتاج إلى خبرة واسعة وتجربة وفهم، وكل صعوبة أو تعقيد قد يصرفهم عن الدعوة. وهؤلاء لا تلقى عليهم المسائل العويصة، والتفاصيل الدقيقة، والبراهين المعقدة والنظم المتشعبة، وهذا الصنف يحتاج إلى المتخصص في فن دعوتهم ومخاطبتهم. وهم يعتمدون على الحس والتأثير أكثر مما يعتمدون على جمع الأدلة وخلافات الأقوال، وهؤلاء تؤثر فيهم العاطفة بدرجة كبيرة ومما يشحذ هممهم قصص الصالحين، والترغيب والترهيب وأحاديث الرقاق, والصنف الثاني: المتعلمون من خريجي الجامعات، ومن في مستواهم في التقدم المعرفي، وهؤلاء يبحثون عن التحليل والاستنتاج والمعنويات ودلائل الإعجاز، وعند مخاطبتهم فإنه لابد من مراعاة ذلك، ومن يستطيع مخاطبة العوام قد لا يستطيع مخاطبة الخواص إذا خاطبهم من هو دونهم لا يقنعهم أو يؤثر فيهم, والصنف الثالث: أصحاب التخصصات العلمية، إذ لكل تخصص مصطلحاته ووسائله، ومن يتعرف على هذا المناخ الخاص فإنه أقدر على توجيهه, كما قد يختلف الحديث مع أصحاب الاهتمامات المختلفة بعضهم عن بعض وكذلك تختلف أصناف الناس تبعا لاختلاف طبائع مجتمعاتهم المحلية وصفاتها وخصائصها فيجب على الدعاة إلى الله دراسة ذلك وتحريه.
الحديث المشوق:
من حكمة الداعية وفهمه أن يختار الأساليب المشوقة المؤثرة والمناسبة في ذات الوقت وأن يتجنب العبارات الخشنة الجارحة والتي قد يسهل استبدالها بالأساليب الجميلة الحلوة المؤدية لنفس المعنى, ففي الصحيح قول النبي _صلى الله عليه وسلم_: " لا يقولن أحدكم خبثت نفسي ولكن ليقل لقست نفسي "يقول ابن حجر تعليقاً على الحديث: يؤخذ من الحديث استحباب مجانبة الألفاظ القبيحة والأسماء والعدول إلى ما لاقبح فيه وإن كان المعنى يتأدى بكل منهما " (فتح الباري 10\564), فالعبارات الجميلة دليل على حسن انتقاء الداعية ورقته وقد كان أصحاب النبي _صلى الله عليه وسلم_ ينتقون الكلام لبعضهم البعض كما ينتقى أطايب التمر, فأين ذلك من الخطباء والمحاضرين الذين يصيحون في الناس متهمين إياهم بالفسوق والعصيان وبالعجز والتقاعص وبالجهل والفساد؟!! إن هؤلاء لا يزيدون الناس إلا نفورا ولا يزيدون المجتمعات إلا تحزبا ضدهم..يقول الشاطبي – رحمه الله -: (وعلى هذا النحو مر السلف الصالح في بث الشريعة للمؤالف والمخالف, ومن نظر في استدلالهم على إثبات الأحكام التكليفية علم أنهم قصدوا أيسر الطرق وأقربها إلى عقول الطالبين, لكن من غير ترتيب متكلف ولا نظم مؤلف, بل كانوا يرمون بالكلام على عواهنه ولا يبالون كيف وقع ترتيبه إذا كان قريب المأخذ سهل الملتمس) (الموافقات 1\59).