نحو صحوة للذاكرين!
26 محرم 1427

مضى زمن طويل ومفهوم الذكر يشوبه لدى كثير من الناس أوهام وأباطيل، ومن أخطر تلك الصور التي أُلصقت زوراً بالذكر والذاكرين صور الغفلة والتصوف المذموم، حتى صارت تلك الصور لدى بعض الناس علامة على أحوال الذاكرين، فأطلقوا عليهم الدراويش ونحو ذلك من الألفاظ التي تعني غياب النفس وشرود الذهن أو العزلة عن الحياة أو الغفلة، فتلقف هذه الصور أعداء الإسلام الكارهين له لتشويه الدين، وجعلوها سمة للذاكرين في كثير من وسائل الإعلام، وسعوا إلى تأصيلها في كتاباتهم ورواياتهم وأفلامهم، وقرنوا بين التخلف والجهل وقلة الوعي وبين فئات الذاكرين، وكأنه لا يُتصور أن يكون الذاكر من أهل العلم والدراسة، والتفوق والنجاح، والقوة والعزة، والحكمة والوعي بالواقع، أو كأنه لا يصح تصور أن يكون المتخصصون في دراسة العلوم الحديثة والتكنولوجيا المتقدمة من الذاكرين لله _تعالى_!

ساهم في تكوين هذه المفهوم الذي يربط بين الذكر وغياب النفس عن الواقع، والعزلة في الزوايا والتكايا، فئات من أتباع الطرق الصوفية التي انحرفت عن الفهم الصحيح لحقيقة الذكر، فخرجوا به عن منهجه القويم ومقصده العظيم إلى بدع وعادات ليست من الإسلام، فما أن تُنطق كلمة الذكر حتى ينصرف معناها لدى كثير من عامة الناس إلى الحلقات والحضرات والزار, والإنشاد بمصاحبة آلات العزف والدفوف، حتى ظن بعض الناس أن ذكر الله تعالى لا يعني غير ما توحي به هذه الطرق من أوراد مخترعة، ولا يتم إلا بأسلوبها المبتدع من تمايل وإنشاد وغناء فردي وجماعي، وكأن أتباع هذه الطرق جعلوا الغفلة هدفاً، والذكر وسيلة للوصول إليه، فاتخذوا من أورادهم المبتدعة وسيلة لكي يصلوا إلى تغييب عقولهم عن الواقع، ورغبة في تحقيق ذلك قاموا فتمايلوا يمنة ويسرة، فأوهموا أنفسهم أن ما يصيبهم من دوار بسبب التمايل هو لحظة الذكر الحقيقي والوجد والوصول إلى الله _سبحانه_.
وما أشد فرح أعداء الإسلام، في الماضي والحاضر، بهذه الطرق المبتدعة في الذكر، والتي تغيب فيها العقول، وتغفل النفوس، فقد ذكر المؤرخون أن نابليون نفسه كان يحضر حفلات المولد، ويشهد حلقات الذكر الصوفي، كما فعل مثله فيما بعد مندوب الاحتلال البريطاني في مصر، وما ذلك إلا لأنهم علموا أن هذه الطرق تصل بالعقول إلى الغفلة، وبالنفوس إلى السلبية، قال الدكتور عمر فروخ: "ومن أجل ذلك يجب ألا نستغرب إذا رأينا المستعمرين يُغدقون الجاه والمال على الصوفية، فربّ مفوض سام لم يكن يرضى أن يستقبل ذوي القيمة الحقيقية من وجوه البلاد، ثم تراه يسعى إلى زيارة حلقة من حلقات الذكر، ويقضي هنالك زيارة تستغرق الساعات! أليس التصوف على هذا الشكل يقتل عنصر المقاومة في الأمم؟!".

ولو كان ما ألصقته تلك الطرق من بدع بالذكر خيراً لكان أول من وصل إليه الأنبياء والمرسلون، وفي مقدمتهم نبينا محمد _صلى الله عليه وسلم_، ولكان الصحابة _رضي الله عنهم_ هم أول من سارعوا إلى ذكر الله _تعالى_ بهذه الطرق. ولو زعم أتباع هذه الطرق أن فعلهم هذا يساعد الذاكر على أن يغيب عن الخلق ليتذكر الخالق، فهذا زعم مردود، لأن الذاكر كلما زاد قرباً وذكراً لله _تعالى_ زادت بصيرته بالخلق، وأعطاه الله _تعالى_ فرقاناً يعرف به الحق، وهذا يعني أنه سيكون أكثر وعياً بحاله، وأشد بصيرة بواقعه، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وخاتم الرسل _صلى الله عليه وسلم_، قد أمر أمته بعبادات شرعية من صلاة، وذكر، ودعاء، وقراءة، لم يأمرهم قط بتفريغ القلب من كل خاطر، وانتظار ما ينزل‏.‏... ولكن التفريغ والتخلية التي جاء بها الرسول أن يفرغ قلبه مما لا يحبه الله، ويملؤه بما يحبه الله، فيفرغه من عبادة غير الله ويملؤه بعبادة الله.....".

ولفظ الذكر نفسه دليل على حضور القلب ويقظة العقل، لأن الذكر ضد الغفلة والنسيان، وإنما سميت عبادة الذكر ذكراً لأنها عبادة تُخرج الإنسان من الغفلة إلى الصحو، وتنقله من غياب العقل إلى إفاقته، ومن ضعفه إلى قوته، ومن ظلامه إلى بصيرته، فذكر الله حضور لا غيبة، وصحو لا غفلة، ونور لا ظلمة، قال الله _عز وجل_: "إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ" [الأعراف: 201].
ولو كان الذكر يُقصد به وبكثرته ذهاب العقل وغيابه عن الواقع، لما ورد الأمر بكثرته في ساحة الجهاد، حيث قال _تعالى_: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُواْ وَاذْكُرُواْ اللّهَ كَثِيراً..." [الأنفال: 45]، وهو موقف يحتاج فيها المجاهد إلى قوة العقل، والوعي بما يدور حوله، وإدراك ما كُلّف به من مهمات، والذكر الكثير الذي يقوم على الكتاب والسنة، وحضور القلب، هو أكبر معين على ذلك، لما يزرعه _بإذن الله تعالى_ وقت المعركة في قلوب الذاكرين من توكل، وصبر، وثبات، ولجوء إلى الله _سبحانه_.. ولو كان الذكر هنا يهدف إلى غفلة النفس عن الواقع لكان الذكر سبباً للهزيمة لا للنصر.

وقد حذّر الله _تعالى_ من ضد الذكر وهو غياب العقل، فحذّر من كل ما يؤدي إلى غياب العقل والوعي، فمن الأسباب التي ذكرها الله _تعالى_ في تحريم الخمر أنه يصد عن الذكر؛ لأن الخمر تُذهب العقل: "إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللّهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُون" [المائدة: 91]. وبيّن _سبحانه وتعالى_ أن الذكر نفسه وسيلة من وسائل مقاومة النسيان، فقال _عز وجل_: "... وَاذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَن يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَداً" [الكهف: 24].
وفي المقابل هناك فئة أخرى، لم تغرق في حلقات الذكر المبتدعة لكنها قصرت ذكرها على تحريك اللسان، دون تدبر لمعناه، أو تأثر بمقتضاه، فلا يذكرون الله _تعالى_ في ذكرهم، ومع أنهم يقلّبون المسابح، ويحركون الأصابع، إلا أن قلوبهم في واد آخر، تمر الأذكار على ألسنتهم ولا تنطق بها قلوبهم، ومع أن ذكرهم هذا لا يخلو من فائدة تعود عليهم من الفضل والثواب، وهذا من عظيم رحمة الله _تعالى_ بعباده ورأفته بهم حيث يثيب عباده على مجرد حركة ألسنتهم بالذكر الصحيح، لما لأذكار الكتاب والسنة من بركة تعم كل من قام بها أو حام حولها، إلا أنهم حرموا أنفسهم من كمال الأجر الذي يترتب على موافقة القلب للسان في الذكر، قال المناوي: (الاستغفار باللسان فقط حسنة أيضاً؛ إذ حركة اللسان به عن غفلة؛ خـير من حركته في تلك الساعة بغيبة أو فضول، بل خـير من السكوت، فيظهر فضله بالإضافة إلى السكوت عنه، وإنما يكون نقصاً بالإضافة إلى عمل القلب).

غير أن غفلة القلب عن ذكر الله _تعالى_ علامة على ضعف الإيمان، بل تكون مع قسوة القلب من علامات النفاق، والتي ينبغي للمؤمن أن يفرّ منها، قال _تعالى_: "إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُواْ إِلَى الصَّلاَةِ قَامُواْ كُسَالَى يُرَآؤُونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللّهَ إِلاَّ قَلِيلاً" [النساء: 142]، قال يحيى بن معاذ الرازي: "كم من مستغفر ممقوت، وساكت مرحوم، هذا استغفر الله وقلبه فاجر، وهذا ساكت وقلبه ذاكر".
ليس من مقصود هذه العبادة العظيمة أن تذهب عقول المسلمين، ولا أن يغيب وعيهم، ولم تُشرع هذه العبادة لإرهاق الألسنة والقلوب غافلة، كما أن الذكر ليس عبادة منفصلة عن الحياة كما يتصور بعضنا ذلك خطأ، حين يظن أن الإنسان إذا أراد أن يكون من الذاكرين فإنه ينزوي عن مجتمعه، أو يهمل في عمله، أو يغفل عن درسه، ليقصر حياته على ترديد الأذكار بلسانه فقط، وقد يكون بعد ذلك ظالماً أو مرائياً أو مرابياً أو سيئ الخُلُق.

إذا أردت أن ترى صورة صحيحة لحال الذاكرين فتأمل حال الأنبياء والمرسلين عليهم السلام، لتعرف كيف كانت حياتهم ذكراً وذكرهم حياة، فهم في عباداتهم وأعمالهم وكل أحوالهم ذاكرون لله _تعالى_، حتى وهم ملوك وقادة يديرون شؤون البلاد والعباد، لم يشغلهم عن ذكر الله _تعالى_ مُلك ولا مال ولا جاه ولا سلطان، ولم يغفلوا عن ذكر الله _تعالى_ في ملكهم أو مالهم وجاههم وسلطانهم، لا كما نرى قادة أو زعماء أو غيرهم يرفضون قيام بلادهم على هوية الإسلام، أو ينادون برفع كلمة الإسلام من دساتير بلادهم، أو يجردونها من مجرد ذكر البسملة! يقول الله تعالى عن داود عليه السلام الذي كان نبياً ملكاً يحكم ويقود شعباً، كيف أنه كان يذكر الله تعالى، ولم يخفض ذلك من شأنه أو يهز ملكه، بل زاد الله تعالى ملكه عزة وقوة، ومدحه على ذكره هذا في كتابه الكريم، فقال: "... وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ [ 17] إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ [18] وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ [ 19] وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ" [ص: 17 - 20]، ويخبرنا _سبحانه_ عن سليمان _عليه السلام_ حين لا ينسى شكر الله _تعالى_ وهو يقود الجيوش ويسير بها في مهمات عسكرية: "وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ [17]... قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ" [النمل: 17 - 19].

ورسول الله _صلى الله عليه وسلم_ هو إمام الذاكرين، وطريقته خير طريقة، وأفضل الأوراد هي ما سنّه لنا من أذكار، وعلّمنا إياه من ألفاظ، وأعظم حال وأحسنه في الذكر هو حاله _صلى الله عليه وسلم_، حيث كانت حياته كلها _عليه الصلاة والسلام_ تدور مع الذكر، ولم يكن فيها غيبة ولا غفلة، قال الأشرفي: "الذكر نوعان قلبي ولساني والأول أعلاهما وهو المراد في الحديث وفي قوله _تعالى_: "اذكروا اللّه ذكراً كثيراً" وهو أن لا ينسى اللّه على كل حال، وكان للمصطفى _صلى اللّه عليه وسلم_ حظ وافر من هذين النوعين، إلا في حالة الجنابة ودخول الخلاء، فإنه يقتصر فيهما على النوع الأعلى الذي لا أثر فيه للجنابة، ولذلك كان إذا خرج من الخلاء يقول: (غفرانك)".
لقد جعل الله _تعالى_ الذكر من أكبر وسائل البناء والتقويم في الأمـة، لا من وسائل الانزواء والضعف والسلبية، حيث قال _تعالى_: "اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ..." [العنكبوت: 45]، ولا يتحقق هذا من عبادة الذكر إلا باتباع الهدي النبوي فيها، ومجاهدة النفس على حضور القلب لا غيبته، وتدبر العقل لا غفلته، كما قال القرطبي: "والذكر النافع هو مع العلم وإقبال القلب وتفرغه إلا من الله"، لتكون القلوب موصولة بالله _تعالى_ حقيقة لا وهماً، قريبة من رضاه _سبحانه_ واقعاً لا خيالاً.