مراهق يحلم بأن يطير فوق السحاب.. وفتاة تحلم بفارس يطير في الهواء يمتطي ظهر جواده يأخذها إلى عالم غير هذا العالم.. أحدهم يحلم بأن يكون مشهوراً يتسابق إليه الناس، وآخر يحلم بأن يكون عالم ذرة، وهذا يحلم بأن يكون رائد فضاء، وذاك يحلم بأن يكون شاعر كل الأقطار، ومن يحلم بأن يصبح ذا مال حيث يملك مالا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، ومن يحلم بأن يصبح حاكماً يأمر فيطاع, وهناك من يحلم بأن يكون صلاح الدين ويحرر المسجد الأقصى أو قائداً لأمة الإسلام يحرر قيدها ويخوض بجيوشها البحر.
وتكون أحلام اليقظة أكثر وضوحاً في مرحلة المراهقة، والخير في أحلام اليقظة فيتمثل في دفعها للشباب من الجنسين إلى بذل الجهد وتوجيه القدرات الإبداعية من أجل تحقيق تلك الأحلام والطموحات، كما أنها تعمل على تخفيف توترات الحياة اليومية ومشاكلها، ولكن إذا حدث استغراق في أحلام اليقظة فتتحول إلى مضيعة للوقت وتستحيل إلى عبث ووهم وتتسبب في عدم النشاط ، وأحيانا الانسحاب من عالم الواقع، وقد تنبئ عن اضطراب في الشخصية.
إن هناك خطوطاً فاصلة بين الحلم والطموح وبين الوهم والعبث.. وطريق تحقيق الحلم هو العمل والمثابرة والإيمان وليس الكسل والقعود والتواكل، ولكن لماذا يحلم المراهقون كثيراً، وما هي أعراض أحلام اليقظة، ومتى تتحول إلى مرض؟
أحلام اليقظة المثمرة
في البداية يؤكد د. عبد الغني عبود (الأستاذ بكلية التربية) أنه من الممكن لأحلام اليقظة أن تكون ذات فائدة إذا كانت واقعية أو إذا كانت استعداداً لمواقف حياتية واقعية مقبلة. فمن الممكن أن تكون خطة حول الأمل في التفوق والنجاح واكتساب الإعجاب من الناس، بشرط أن ينال هذا الحلم تخطيطاً وتفكيراً في سبيل النجاح الدراسي أو العملي، واتخاذ وسائل معينة أو ترتيب الأفكار أو الإجراءات بحيث يمكن للشخص الذي يحلم حلم اليقظة أن يتخذ هذه الخطوات أو هذه التدابير فعلاً في حياته عندما يقابله موقف الامتحان أو موقف العمل وغيره من مواقف الحياة الفعلية.
إذن حلم اليقظة ممكن أن يتضمن تفاصيل ومواقف يتخذها الشاب فعلاً في حياته بحيث تؤدي إلى نتائج ملموسة، أما حلم اليقظة الذي يفضي إلى الوهم والعبث فهو الحلم الذي يتضمن مواقف تبعد تماماً عن قدرات الشخص ومواهبه وإمكانياته، بحيث لا يمكن أبداً أن يحققها في حياته مهما بذل من جهد ومهما قام من أعمال. فحلم اليقظة المثمر هو أيضًا فوق الواقع أو هو يحلق في سماء الخيال والمثالية ولكنه ليس بعيداً إلى الدرجة التي تنقطع بها الإمكانيات والقدرات عن الواقع، وإنما يحلق في منطقة قريبة إلى حد معقول من هذه الإمكانيات بحيث يمكن أن يكون هدفًا يسعى إليه في حياته ويتخذ الوسائل لتحقيقه.
لكن الأحلام الوهمية هي التي لا صلة لها على الإطلاق بالواقع أو بالإمكانيات والقدرات المتاحة أو التي يمكن تطويرها.
وهكذا يمكننا أن نفرق بين أحلام اليقظة والطموحات المثمرة أو الهادفة والتي ترقى بالمواهب، وتلك السيئة التي يحلق صاحبها في الخيال بعيدًا عن أي شيء يمكن للشخص أن يحققه مهما بذل من جهد أو مهما تحققت له إمكانيات كبيرة.
مسؤولية الأسرة
من جانبها ترى د. ملك الطحاوي (أستاذة علم الاجتماع) أن الشاب أو الفتاة في وقت المراهقة يكون لديه فوران عاطفي وجموح، وإذا لم تكن هناك روابط أسرية ودفء وصداقة من قبل الأم أو الأب لأبنائهم في هذه المرحلة فإن الشاب يلجأ إما إلى صديق قد يكون صديق سوء وهذا أمر خطير، أو يلجأ لتفريغ الشحنة العاطفية المتأججة داخله في أحلام اليقظة. وأحسب أننا جميعًا مررنا بهذه المرحلة، ولكنها تتراوح في حجمها وطولها حسب قدرات الشخص ومقوماته النفسية والاجتماعية.
وأحلام اليقظة شيء عادي بحيث لا تتعدى حدوداً معينة؛ لأنها من الممكن أن تتحول إلى حالة مرضية وأوهام ليس لها قيود أو حدود. فقد يهديه تفكيره العاطفي مثلاً أنه عبقري ولا أحد يعرف مثله، وهو لا يكون كذلك وبالتالي لا يتقدم في طريق عمله أو دراسته.
أما أحلام اليقظة المنضبطة المرتبطة بالواقع فهي الأمل والطموح الذي تدفع الإنسان إلى النجاح، وفرق هائل بين الاثنين، وهنا تقع مسئولية الأم ودور الأسرة في تقويم وتوجيه الشاب في هذه المرحلة.
الدكتور حامد الموصلي (الأستاذ بكلية الهندسة) يقول: كلنا يحلم، والنجاح والتقدم على كافة المستويات الاجتماعية والعلمية والثقافية يبدأ بحلم وأمل، ولولا الآمال والأحلام العظيمة ما كانت هناك حضارة راسخة، والاختراعات تبنى أساسًا على تخيل لكنه محكوم بضوابط وأسس علمية، وأنا أدعو الشباب الذي يحلم ولديه القدرة على وضع أسس لخياله وحلمه أن يبدأ فورًا بتنفيذ الحلم على أرض الواقع. أما أوهام اليقظة، فهذه مسألة أخرى يجيد فيها علماء النفس والتربية ولكنها في النهاية مسؤولية الأسرة، التي تقوّم الجموح وتضع الأمور في نصابها.
أسباب الاستغراق في الحلم
يقول د. وائل فرج (أستاذ علم النفس): إن الأحلام أولى درجات النجاح، فالحلم يساعد على تكوين هدف يسعى الإنسان إلى تحقيقه، إلا أن الانغماس في الأحلام، والبعد عن تطبيق الوسائل والأهداف لتحقيقها، يعد من باب المشكلات النفسية، التي تواجه كثيراً من الأبناء، وتزداد بوضوح في مرحلة المراهقة.
إن أحلام اليقظة هي انغماس الشخص في الأحلام، في وقت غير مناسب، على نحو يتضمن عدم القدرة على التركيز، فإذا زاد انغماس الشخص في أحلامه، إلى درجة إعاقته عن عمله، وواجباته، فإن هذا يشير إلى تفاقم المشكلة، فمثلاً لا يعد سلوكاً عادياً، أن يقضي طفل عمره ما بين 8 ـ 10 سنوات أكثر من 10 دقائق في الأحلام.
وهناك أسباب عدة لاستغراق الطفل في أحلام اليقظة، منها: شعور الطفل أن أحلام اليقظة تعد أكثر إشباعاً له من حياته الواقعية، خاصة عندما يشعر أن حياته شديدة الصعوبة، وغير قادرة على إشباع احتياجاته، بشكل كاف، مما يجعله يشعر أن أحلام اليقظة تعد مهرباً ممتعاً؛ لأن الأماني التي يجري تحقيقها من خلال الخيال تعطي شعوراً قوياً بالرضا، مقارنة بما يتحقق في الأنشطة اليومية المملة، فأحلام اليقظة تتيح للأطفال أن يروا أنفسهم أبطالاً ومشهورين ومحصنين، ضد النقد والمشاعر السلبية، خاصة لو أنهم يملكون القدرة على العمل بكفاءة، غير أن مواهبهم لا تحظى بثناء الآخرين وتقديرهم.
وتظهر أحلام اليقظة، بوضوح، عند الأطفال ذوي الإعاقة، فغالباً ما يحلم هؤلاء الأطفال بأنهم طبيعيون ومشهورون، خاصة إن هناك العديد من المعوقات التي لا تساعدهم على التكيف في محيطهم التعليمي العادي، وان كانت الإعاقة قد تكون سبباً في الاستغراق في أحلام اليقظة، فإن الإحباط هو أسهل الطرق لهذه المشكلة؛ لأن الرضا والشعور بالقوة التي يتعذر الحصول عليها في الواقع يجري البحث عنها في الخيال.
ولوقاية المراهقين والشباب من الاستغراق في أحلام اليقظة، يجب أن يشعروا بالكفاءة والأمان حتى يكون في مقدورهم التفاعل مع محيطهم بشكل فعال. فغرس الشعور بالكفاءة لدى الطفل أو المراهق أمر هام جداً للتغلب على هذه المشكلة، كما يجب أن يكون الآباء حريصين على إعطاء الاستقلالية المناسبة لأولادهم وتشجيعهم على إنجاز المهمات التي تحقق لهم الحصول على ثناء الآخرين والشعور الشخصي بالإنجاز.
فإسناد المهمات للأبناء بما يناسب أعمارهم، وبما يشعرهم بالتحدي، يساعد على إحساسهم بذواتهم وكفاءتهم وشعورهم بالرضا عن إنجازهم، خاصة إن الشعور بالرضا عادة ما يقترن بالقدرة على معالجة الأمور بكفاءة ويجنبهم كثيراً من الصعوبات، خاصة أحلام اليقظة.
الرغبات المكبوتة
د. سمير عبد الباقي يقول: إن بعض العلماء يعد الأحلام هبة؛ لأنها عملية تهريب للرغبات المحرمة، فالإنسان يريح بدنه المتعب بالنوم، وبه أيضاً يشبع رغباته المكبوتة أو ينفس عنها.
ويرى كذلك إلى أن الإنسان يستطيع أن يشبع رغباته المكبوتة أثناء اليقظة أحياناً عن طريق أحلام اليقظة. فقد يشتد ضغط الرغبة على أحد الناس بحيث لا يستطيع الصبر عليها. أنه يريد أن يشبعها حالاً. ولعله لا يحب أن ينتظر وقت النوم، أو هو لا يعتمد على أحلام النوم اعتماداً كبيراً، فيلجأ إلى أحلام اليقظة لينفس بها عن همومه الكامنة.
أحلام اليقظة وخرف الشيخوخة
المفاجأة في هذا الموضوع أن دراسة علمية حديثة كشفت أن هناك رابطاً بين أحلام اليقظة ومرض الزهايمر أو خرف الشيخوخة الذي يقوم بمحو الذاكرة وقدرات النطق عند المصاب به.
وبينت الدراسة الجديدة التي نفذتها جامعة واشنطن أن الجزء من الدماغ الذي يقوم بعملية أحلام اليقظة، هو نفس الجزء الذي يتطوّر فيه مرض الزهايمر لاحقاً عند بعض الأفراد.
وتشير هذه الدراسة إلى أن نشاط الدماغ الطبيعي لحلم اليقظة يدعم الأحداث التسلسلية التي تؤدي لمرض الزهايمر.
وقال (رئيس البحث) البروفيسور راندي باكنر: الدلالات وإن كانت متضاربة، هي أن هذه الأنماط في النشاط لدى الشباب هي الموطئ الذي يتشكل فيه مرض الزهايمر، وربما تكون الوظيفة الإدراكية العادية للمخ هي التي تقود للإصابة بخرف الشيخوخة لاحقا، هذه العلاقة لم نضعها في الاعتبار أبداً، فهذا قد يؤدي إلى سلسلة منظمة من الأحداث تنتهي بمرض الزهايمر عند بعض الأشخاص.
وقام الباحثون بجامعة واشنطن وجامعة بيتسبورغ باستخدام خمس تقنيات تصوير لمسح أدمغة 764 شخصاً قسموا إلى ثلاث فئات بالنسبة للعمر، أشخاص في العشرين من العمر والأكبر الذين بدأ لديهم عارض الخرف والفئة الثالثة هي فئة المصابين فعليا بخرف الشيخوخة.
ووجد الباحثون عند مقارنة صور الأدمغة أن الأجزاء في الدماغ المتعلقة بالتأمل وأحلام اليقظة واسترجاع ذكريات جميلة لدى الشباب كانت براهين على ظهور مرض الزهايمر لاحقا.
وأوضح الباحثون أن الجزء في الدماغ المتعلق بأحلام اليقظة، هو دائم النشاط حتى لو كان الدماغ في حالة استرخاء، وقالوا إنه كالمحرك البطيء لا يتوقف إطلاقا وهذا النشاط قد يدعم سلسلة أحداث يمكن أن تؤدي للخرف.
الإسلام يهذب أحلام اليقظة ويوجهها
ويقدم الإسلام نموذجاً علاجياً متفرداً لأحلام اليقظة عند الكبار والصغار، ويعتمد هذا النموذج العلاجي التربوي على الأسس الآتية:
أولا: قصر الأمل وقطع الأمنيات الزائلة:
فالإسلام يستحب ألا يطول أمل الإنسان ووهمه وتعلقه بالدنيا كمتاع زائل ورغبة جامحة بل يرغب في قصر الأمل الذي هو الأمنية الواهمة التي تصور الزخرف الواسع والملك الكبير والحسان والأموال وما مثل ذلك يقول الله _تعالى_ على لسان الناصح " ياقوم إنما هذه الحياة الدنيا متاع وإن الآخرة هي دار القرار ",. ويقول _سبحانه_: " واضرب لهم مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض فأصبح هشيما تذروه الرياح ", ويقول _سبحانه_: " وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور ".. ويقول _صلى الله عليه وسلم_ فيما رواه البخاري عن أنس: " هذا الإنسان وهذا أمله وهذه الأعراض إذا أخطأه عرض لم يخطئه الأخر"
ثانياً: الدعوة إلى الإنجاز والعمل والبذل:
فالإسلام في ذات الوقت يدعو إلى النشاط والعمل ولا يدعو إلى القعود والتخيل والتمني، فإن التمني لا يفيد المؤمن شيئاً, قال الله _تعالى_: " والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا " وقال _صلى الله عليه وسلم_: " إذا قامت الساعة وبيد أحدكم فسيلة فإن استطاع ألا تقوم قبل أن يغرسها فليغرسها "
ثالثاً: الدعوة إلى الطموح الإيجابي والتخلي عن الأماني السلبية:
فالإسلام يدعو إلى الطموح في العلم والإصلاح والتنمية والتقدم والعبادة رغبة في رفعة المآل يوم القيامة وإصلاح الأرض, يقول عمر بن عبد العزيز: " إن لي نفساً تواقة تاقت إلى العلم ثم تاقت إلى الإمامة ثم تاقت إلى الجنة " – ورغبته في الإمامة هنا هي رغبة إيجابية لتطبيق الإصلاح في الأمة, والله _سبحانه_ يعلمنا دعوة إبراهيم _عليه السلام_ " واجعلنا للمتقين إماماً ", ويقول _صلى الله عليه وسلم_:" أصدق الأسماء حارث وهمام "...