تموج الحياة الثقافية على الساحة الإسلامية بتيارات شتى تتنازع عقل المسلم، وما بين الفكر الوسطي إلى الفكر المتشدد إلى الفكر الجامد إلى فكر التفلت والانحلال، يقف الشاب المسلم الذي لا يزال على بداية الطريق حائراً.
ومما يزيد الأمر تعقيداً أن كل تيار ثقافي له دُعاته وكُتُبه ومنهجُه حتى صار دولة وحده. فكيف يختار الشباب المسلم؟ وكيف يمكن لأجهزة الإعلام ولبرامج التعليم أن تسانده وتحضنه وتضع قدميه على الطريق الصحيح؟
في البداية يجب التفريق بين مستويين لهذه الإشكالية التي يعيشها الإنسان المسلم في مجال الثقافة، المستوى الأول هو: وصف الواقع، والمستوى الثاني هو: المستوى النظري بمعنى ما يجب أن تكون عليه ثقافة المسلم. وبالنسبة للمستوى الأول وهو المستوى الواقعي فإن ثقافة المسلم تتحدد على مراحل مختلفة، فهناك مرحلة الطفولة وما يتم تلقينه فيها من عادات وسلوكيات وقيم، ثم تأتي بعد ذلك مرحلة النظام التعليمي بما فيها من مناهج وخبرات، ثم مرحلة النظام الإعلامي بما فيها، ثم مرحلة النظام الثقافي الفني بما فيها، ثم المجال الاجتماعي بما فيه من ممارسات وعلاقات ومشاركات اجتماعية.. ويدخل في النظام الاجتماعي النشاط السياسي والاقتصادي. كل هذه الأمور تشكل مجتمعة ثقافة الإنسان من حيث تلقينه قيم وسلوكيات وأنماط في التفكير ورؤية في الحياة وتحديد للأهداف. وإذا كانت هذه هي محددات الثقافة فإنها تختلف من بلد إلى آخر داخل العالم الإسلامي.. فهناك فئات تتعرض لكل هذه المؤثرات وفئات تتعرض لبعضها.
والوضع الراهن بالنسبة لثقافة المسلم تسيطر عليه الثقافة ذات الأصول الغربية أو ذات الطابع العلماني التي تستبعد الدين، بمعنى أن المحتوى الذي يقدم من خلال وسائل الإعلام أو الأدوات الفنية أو الممارسات الاجتماعية أو الأفكار الفلسفية الكبرى والسياسية يتسم بغلبة الأصل الغربي عليه.
ثم نجد المسلم يعيش بين نارين: نار تقوده إلى استبعاد الدين من أنماط السلوك والتفكير والقيم والممارسات سواء كان ذلك يتم بطريقة مدبرة أو بطريقة عفوية، ونار تقوده إلى الانغلاق والجمود بدعوى الحفاظ على الموروث. وما بين هاتين النارين يعيش المسلم حالة من الشد والجذب. حيث افتقرت كثير من المناهج الثقافية تلك النظرة الوسيطة في التربية الثقافية التي تجمع بين الحفاظ على ثوابت الإيمان والسلوك الديني مع القدرة على التكيف التنموي العصري ودمج الخطين معا – وهو ما حاول بعض المثقفين حمله كرسالة يؤدونها ولازال بعضهم يحاولون –.
ولقد كان الصراع الثقافي في البلاد الإسلامية على مدى القرن العشرين يعيش هذه الحالة التي وصفناها ولكن بدرجات متفاوتة. فنموذج تركيا بعد سقوط الخلافة كان قاسياً شديداً لدرجة تغيير الكتابة نفسها وكذلك طريقة اللبس وكان الضغط الأوروبي شديداً.. وكان نموذج إيران أقل منه قليلاً قبل الثورة الخمينية.. في حين أن مصر قبل ثورة 1952 انتشر فيها الجانب العلماني على حساب الجانب الإسلامي ولكن بدرجة أخف كثيراً من حالة تركيا وإيران. وهكذا كان الانتشار العلماني ساحقاً في حالة الجمهوريات الإسلامية في الاتحاد السوفيتي السابق لدرجة محو الإسلام كلية وكان الانتصار ساحقاً أيضًا في تركيا. وفي حال استطاعت بعض البلاد الإسلامية – كالسعودية – الحفاظ على كثير من ثوابتها بفضل دعوات إيجابية انتشرت فيها، فإن معظم الدول الإسلامية التي تشبه حالة مصر مثلا كان الانتصار العلماني في شكل تمكن في الساحات الاجتماعية والنخبة والممارسات السياسية. وهذا كله انعكس على شخصية المسلم فعاش نوعاً من التمزق والثنائية والازدواجية وعاش صراعاً نفسياً رهيباً. وهذه الحالة من الصراع النفسي وعدم الاستقرار والازدواجية تولد السلبية والانسحاب وعدم القدرة على الإبداع والإنجاز.
وللخروج من هذه الإشكالية الثقافية، فإننا في هذا الصدد ينبغي أن نتحدث عن المستوى الثاني وهو ما يجب أن تكون عليه الأوضاع.. وأول ذلك أن يكون للثقافة العربية الإسلامية اليد العليا والهيمنة والسيطرة داخل البلاد الإسلامية على جميع المستويات الإعلامية والأدبية والثقافية والاجتماعية والسياسية.. كما يجب ألا يركز النظام التعليمي على اللغات الأجنبية والثقافة الأجنبية ويهمل اللغة العربية والثقافة العربية الإسلامية وأن يكون للثقافة الإسلامية اليد العليا، وهذا لا يعني الانغلاق ورفض الثقافات الأخرى فهذا غير مطروح ولكن المطروح هو التعامل معها من موقع القوة والثقة بالنفس والتمكين للثقافة الإسلامية في مجتمعها.
الهيمنة الثقافية تعني هزيمة سياسية:
وللقضية بعد آخر، فهزيمة أية دولة ثقافياً إنما يعني هزيمتها سياسياً وعسكرياً واقتصادياً.. فالاستعمار الأوروبي حينما فشل في حروبه الصليبية ضد العالم العربي ثم في استعماره العسكري الحديث كان حريصاً بعد أن استفاد من الدرس أن يتلاعب بثقافة وعقول المسلمين حتى تنشأ أجيالهم تسبح بحمده وتتصرف كما يريد لها هذا المستعمر. وإلا فلماذا اهتمت إنجلترا أن يضع خبراؤها بأنفسهم نظم التعليم وبرامجه في مصر أيام الاحتلال؟.
إن تجربة الجزائر في التعريب أغاظت فرنسا كثيراً وهي التي سرقت الثقافة العربية الجزائرية وصدرت لها حتى اللغة الفرنسية. وتجربة الجزائر هذه درس للمسئولين العرب فإن كانوا يريدون إقامة دولة متحررة من أية سيطرة ولها كيانها الخاص فلابد من البداية الصحيحة وهي إصدار القرارات التي يكون من شأنها التصالح مع الفكر الإسلامي والثقافة والقيم الإسلامية.
وإذا كانت السياسة والاقتصاد وجامعة الدول العربية وغيرها قد فشلت جميعها في توحيد العالم العربي فإن من شأن الثقافة أن توجد الأرضية الملائمة لهذه الوحدة بشرط توافر النوايا الطيبة والقرارات الصحيحة أولاً لتوجيه التعليم والإعلام الوجهة الإسلامية العربية ثم العمل على تدفق وتوحيد هذه النظم داخل الدول العربية ككل.
وهكذا فسوف يكون الطالب العربي في كل مكان يدرس مناهج متشابهة ويقرأ أفكاراً وثقافة واحدة، وبالتالي ستصبح أمانيه وتطلعاته واحدة. ومن شأن تدفق ثقافة وتعليم واحد عبر العالم العربي أن يصون مجتمعاتنا ويحفظ تماسكها أمام غول البث الإعلامي المباشر الذي يأتينا من كل اتجاه حاملاً أفكاراً وقيماً وثقافة تخالف كل ما لدينا.. وهذا الغول يأكل كل شيء طالما سلمناه أنفسنا بلا جذور ولا هوية.
إن الإعلام والثقافة والفكر المنتشر في أنحاء العالم العربي والإسلامي إنما هو أفكار غربية ليس لها جذور إسلامية تحفظها من أن يلتهما هذا الغول الغربي القادم. والعالم العربي اليوم في أضعف مراحل تاريخه ويبحث عمن يوحده بأية طريقة ولكنه يستبعد الثقافة من هذا الدور رغم إنها المرشح الأول لتوحيده بشرط أن يكون هناك جهد مخلص على كافة المستويات التعليمية والإعلامية والأدبية والفكرية والفنية يركز على الأصول العربية الإسلامية ويضعف من شأن القيم والأفكار الأوروبية.
المناهج والنظام التعليمي أهم أسباب المأزق الثقافي:
وإذا ناقشنا هذه الإشكالية من جانب المناهج الدراسية في بعض الدول مثل مصر وليبيا وتونس والمغرب فماذا ننتظر من حالة ازدواج متأصلة عبر عشرات السنين؟ إننا نعيش حالة ازدواجية لا يمكن أن يصدقها عقل.. فهناك التعليم الديني وبجانبه التعليم المدني والأول تسيطر عليه مؤسسات مقيدة بقيد سياسات كل دولة على حدة والثاني مشوب وموجه ومخلوط بالفكر العلماني الصارخ وهذه ازدواجية خطيرة تؤدي إلى تخريج عقليتين مختلفتين في المرجعية وطرق التفكير.
وهذه الازدواجية لا يستهان بها على الإطلاق، فالمفترض أن النظام التعليمي يعمل على تكوين عقليات لديها قاسم مشترك كبير في الثقافة والتعليم.. أما الموجود عندنا حالياً فهو تخريج أناس مختلفي التفكير والمرجعية. كما أن التعليم المدني أو ما يسمى بالتعليم العام نفسه يعاني من الازدواجية فهناك مدارس الحكومة والمدارس الخاصة، ثم الكارثة الكبرى في مدارس اللغات التي تدرس بلغة أجنبية وتخرج طلاباً منهزمين أمام الثقافة والفكر الغربي ومختلفين في التفكير والمزاج عن زملائهم في التعليم العام. إننا مجتمع يدمر نفسه بنفسه وهذه الازدواجية أضعفت مجتمعنا وأنهكته وجعلتنا مجتمعين اثنين لا مجتمعاً واحداً.
ولكم تكاثرت دعوات المصلحين نحو تعديل الخطاب الديني لمواءمة العصرية مع تمسكه بالثوابت وكذلك الدعوات نحو طرح جديد للتعليم المدني بعد تنقيته من شوائب العلمانية الغربية وعرض الفكر الديني متحررا من القيد السياسي وتقديم نموذجا متقاربا لتوحيد الفكر الثقافي العام لدى المتخرجين والدارسين من كافة الاتجاهات..وحتى الآن لم تلق تلك الدعوات أي صدي تنفيذيا لها.. ولا ندري هل بعد تلك الهجمة الاستعمارية الشرسة على أمتنا وتذويب ثقافتنا هل يمكننا أن نرى أية أصداء لتلك الدعوات الإصلاحية؟
مصادر الثقافة الإسلامية غائبة:
إننا نستطيع تحديد مصادر الثقافة الإسلامية في أمور أربعة هي القرآن الكريم والسّنَّة النبوية واجتهادات العلماء المسلمين الأعلام، مثل الأئمة الأربعة ثم اجتهادات العلماء المسلمين المعاصرين الكبار المشهود لهم بالعلم والورع والرسوخ والحكمة والعطاء والثبات.
وحينما نريد أن نقيس مدى الانحراف في ثقافة المسلم المعاصر فيصبح الأمر سهلاً حيث ننظر إلى مدى ما تسهم به هذه المصادر الأربعة في صياغة ثقافته. لكن الملاحظ على أرض الواقع أن هذه الأمور لا تشكل إلا حيزاً بسيطاً من الثقافة التي يحصل عليها المسلم. فشبابنا يعرف الممثلين والرياضيين الأجانب معرفة متعمقة في حين أنه ربما لم يسمع مطلقاً عن عمالقة الفكر والثقافة الإسلامية.
ووسائل الإعلام تلعب دوراً في تسطيح الثقافة من ناحية ثم في تشويهها وإبعادها عن مصادرها الإسلامية من ناحية أخرى.. وإصلاح هذا العوج يحتاج إلى قرار سياسي بإصلاح حال التعليم.. وإذا كنا نريد تخريج شباب له شخصية وإلمام شامل بما يجري في العالم حتى يكون مديراً أو قائداً ناجحاً في المستقبل فلابد أن تكون هناك قرارات سياسية بتوجيه التعليم والإعلام وجهة تركز على هوية الأمة وجذورها الإسلامية.
إن لدينا ثوابتنا الأصيلة عقائديا وثقافيا وأخلاقيا، قدمها لنا الإسلام في صورة نموذجية سهلة التناول عميقة الأثر، وكلما اقتربنا منها كلما اقتربنا من تحقيق تلك الذات الغائبة، وإذا حاول مجتمع ما أن يبتعد عنها أو أن يستغني عن مرجعيتها فإنه سيهوى في هوة سحيقة لا يعلم أحد منتهاها.