حق الصغير في التنشئة الصالحة (2-2)
8 جمادى الأول 1427

(سبق في الجزء الأول من المقال أن تعرض الكاتب لأهمية الاهتمام بتربية النشء وحقهم في تربية متقنة وبدأ ببيان الواجب تجاه هذه التنشئة الصالحة من تعويدهم على العبادات و الالتزام بالشعائر التعبدية كما تحدث عن القدوة وأثرها في تعبد الصغار وساق من الأدلة وآثار السلف الصالحين نماذج من ذلك , وفي هذا الجزء يكمل الكاتب حديثه حول التربية بالحب وأثرها وتقويم سلوك الصغير وما يتعلق بذلك).

التربية بالحب:
ولهذا النوع من التربية مظاهر منها:
تقبيل الصغير واحتضانه وشمه:
من مظاهر الحب التقبيل للصغار وضمهم وهذا من الرحمة التي يؤجر العبد عليها وقد جاء في حديث أبي هريرة _رضي الله عنه_ أن النبي _صلى الله عليه وسلم_ قبل الحسن وعنده الأقرع بن حابس التميمي جالسا فقال الأقرع: إن لي عشرة من الولد ما قبلت منهم أحدا، فنظر إليه النبي _صلى الله عليه وسلم_ ثم قال: من لا يرحم لا يرحم"(1).

وقال بريدة: كان رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ يخطبنا فجاء الحسن و الحسين عليهما قميصان أحمران يمشيان ويعثران، فنزل رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ من المنبر فحملهما فوضعهما بين يديه وقال: صدق الله: "إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ" (التغابن: من الآية15) نظرت إلى هذين الصبيين يمشيان ويعثران فلم أصبر حتى قطعت حديثي ورفعتهما(2).

ومن ذلك الدعاء للصغير:
وهذا هو هدي الأنبياء والصالحين فعباد الرحمن يقولون: "رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ" (الفرقان: من الآية74)، ويدعو لهم بصلاح العقيدة: "وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ" (إبراهيم: من الآية35) ويدعو لهم بأن يكونوا مقيمين للصلاة: "رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي" (إبراهيم: من الآية40).
وعن ابن عباس _رضي الله عنهما_ قال: "ضمني رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ وقال: "اللهم علمه الكتاب" وفي رواية: "اللهم علمه الحكمة" وفي أخرى: "اللهم فقهه في الدين"(3).
وعن أسامة بن زيد _رضي الله عنه_ قال: إن كان رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ ليأخذني ويقعدني على فخذه ويقعد الحسن على الأخرى ثم يضمنا ثم يقول: اللهم ارحمهما فإني أرحمهما(4). وفي رواية: (اللهم إني أحبهما فأحبهما)(5).
أما الدعاء عليهم فقد ورد النهي عنه في حديث جابر _رضي الله عنه_ أن رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ قال: "لا تدعوا على أنفسكم ولا تدعوا على أولادكم ولا تدعوا على أموالكم، لا توافقوا من الله ساعة يسأل فيها عطاء فيستجيب لكم"(6).
وجاء رجل إلى ابن المبارك يشكو عقوق ابنه فسأله إن كان قد دعا عليه أم لا، فأجاب: بأنه قد دعا عليه، فقال له حينئذ: أنت أفسدته(7).

ومن ذلك ممازحتهم وتفريحهم:
فقد كان _صلى الله عليه وسلم_ يمازح الصغار فقد قال لأحدهم: (يا ذا الأذنين)(8)، ومج _صلى الله عليه وسلم_ الماء في وجه محمود بن الربيع وهو ابن خمس سنين(9). وقال لأحدهم: "يا أبا عمير ما فعل النغير"(10).
وعن أبي هريرة _رضي الله عنه_ قال كان رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ إذا أتى الثمر أُتي به فيقول: (اللهم بارك لنا في مدينتنا وفي مُدِّنا وفي صاعنا بركة مع بركة) ثم يعطيه أصغر من بحضرته من الولدان(11).
ومر ابن عمر _رضي الله عنهما_ في طريق فرأى صبياناً يلعبون فأعطاهم درهمين(12).
وعن أنس _رضي الله عنه_ قال كان رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ يزور الأنصار ويسلم على صبيانهم ويمسح رؤوسهم"(13).
وعن يعقوب بن سرجس - مولى أم سلمة – أنه أتي به وهو صغير إلى أم سلمة زوج رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ فمسحت رأسه وبركت عليه . وهكذا فعل أبو هريرة مع فاطمة بنت سعد(14).

السماح لهم باللعب فهو ربيع الصغار:
عن أبي هريرة _رضي الله عنه_ "أنه صلى مع رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ العشاء فأخذ الحسن والحسين يركبان على ظهره فلما جلس وضع واحدا على فخذه والآخر على فخذه الأخرى ..."(15) وعن ابن مسعود _رضي الله عنه_ قال: كان النبي _صلى الله عليه وسلم_ يصلي والحسن والحسين يثبان على ظهره فيأخذهما الناس فقال: دعوهما بأبي هما وأمي، من أحبني فليحب هاذين)(16).
وعن عبدالله بن الحارث _رضي الله عنه_ قال: كان _صلى الله عليه وسلم_ يصف عبدالله وعبيدالله – من بني العباس- ثم يقول: من سبق إلي كذا فله كذا وكذا، قال: فيستبقون إليه فيقعون على ظهره وصدره فيقبلهم(17).
وورد عنه _صلى الله عليه وسلم_ أنه كان من أفكه الناس مع صبي(18).
ونقل ابن مفلح عن ابن عقيل أنه قال: "والعاقل إن خلا بأطفاله خرج بصورة طفل ويهجر الجد في ذلك الوقت"(19).
وعن الحسن أنه دخل منزله وصبيان يلعبون فوق البيت ومعه عبدالله ابنه فنهاهم فقال الحسن: دعهم فإن اللعب ربيعهم(20).
وعن إبراهيم النخعي قال: كانوا يرخصون للصبيان في اللعب كله إلا بالكلاب(21).
وفي حديث الجاريتين أنهما كانتا تغنيان وتضربان بالدف عند عائشة _رضي الله عنها_ في العيد من أيام منى(22).
كما ورد عنها _رضي الله عنها_ أنه كان لها فرس له جناحان(23).
ويجوز لعب الأطفال ببعض الحيوانات والطيور إذ لم يكن فيه أذى لها، ففي الصحيحين عن أنس _رضي الله عنه_ أن النبي _صلى الله عليه وسلم_ قال لأخ لأنس: "يا أبا عمير ما فعل النغير"(24).

التوسعة عليهم عند اليسار:
وهذا داخل في عمومات النصوص التي منها: "خيركم خيركم لأهله" وحديث: "إن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده"، ومن أولى ما يدخل في ذلك التوسعة على الأولاد باللبس الحسن والطعام الحسن بل وتطييبهم بأنفس الطيب، قالت أم أبي محمد التمار: ربما حملنا أولاد أيوب فعبق لنا من ريحهم ريح المسك أو الطيب(25).

حقوق الصغار في أبواب الآداب:
من ذلك تشميت الصغير إذا عطس، ومن حق الصغير أن يسلم عليه فعن أنس _رضي الله عنه_ قال: "كنت مع النبي _صلى الله عليه وسلم_ فمر على صبيان فسلم عليهم"(26).
ومن ذلك أن يُستأذن عليه عند الدخول فقد قال جابر _رضي الله عنه_: "يستأذن الرجل على ولده وأمه وإن كانت عجوزا وأخيه وأخته وأبيه"(27).
ولا يقدم عليهم في حقهم إلا بإذنهم فعن سهل بن سعد _رضي الله عنه_ أن رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ أتي بشراب فشرب منه وعن يمينه غلام وعن يساره الأشياخ فقال للغلام: "أتأذن لي أن أعطي هؤلاء، فقال الغلام: والله يا رسول الله لا أؤثر بنصيبي منك أحدا، فتله رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ في يده"(28).
ومن ذلك أنه لا يجوز أن يكذب عليهم فعن عبدالله بن عامر _رضي الله عنه_ قال: "أتانا رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ في بيتنا وأنا صبي، قال: فذهبت أخرج لألعب، فقالت أمي: يا عبدالله تعال أعطيك، فقال رسول الله _صلى الله عليه وسلم_: وما أردت أن تعطيه؟ قالت: تمرا، فقال: أما إنك لو لم تفعلي كتبت عليك كذبة"(29)، وصح عنه _صلى الله عليه وسلم_ أنه قال: (إن الكذب لا يصلح منه جد ولا هزل ولا أن يعد الرجل ابنه ثم لا ينجز له)(30).

حفظ نظر الصغير بتعليمه الاستئذان في أوقات الراحة:
قال _تعالى_: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشَاءِ ثَلاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ..." (النور: من الآية58)، يقول أنس _رضي الله عنه_: "كنت خادماً للنبي _صلى الله عليه وسلم_ فكنت أدخل بغير استئذان فجئت يوما فقال: كما أنت يا بني فإنه قد حدث بعد أمر، لا تدخلن إلا بإذن"(31). وقد ذكر ابن قدامة أن الطفل يؤمر بالاستئذان في سن التمييز(32).

تقويم سلوك الصغار:
قد يظن ظان أن أسرع طريقة للتقويم الضرب وهو مخالف للهدي النبوي كما أن الدراسات الحديثة أثبتت أن استخدام الوسائل الأخرى أكثر تقويما للسلوك. ولنتأمل في هذه القصة التي رواها أحمد أن رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ خرج إلى طعام كان قد دعي إليه مع بعض أصحابه فاستقبل رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ أمام القوم وحسين مع غلمان يلعب، فأراد رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ أن يأخذه فطفق الصبي ها هنا مرة وها هنا مرة، فجعل النبي _صلى الله عليه وسلم_ يضاحكه حتى أخذه(33). فهذه وسيلة سهلة توصل إلى المقصود.

ومن الأساليب أيضا العتاب الرقيق فقد قال أنس بن مالك _رضي الله عنه_: كان رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ من أحسن الناس خلقا، فأرسلني يوما لحاجة، فقلت: والله لا أذهب – وفي نفسي أن أذهب لما أمرني نبي الله _صلى الله عليه وسلم_- قال: فخرجت حتى أمر على الصبيان وهم يلعبون في السوق، فإذا رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ قابض بقفاي من ورائي فنظرت إليه وهو يضحك فقال: يا أنيس اذهب حيث أمرتك، قلت: نعم أنا أذهب يا رسول الله(34).
والضرب وسيلة تقويم وقبلها وسائل، وقد ورد الأمر بتعليق العصا في البيت(35).
وعن عائشة _رضي الله عنها_ قالت في أدب اليتيم: إني لأضرب اليتيم حتى ينبسط(36).أي يعتدل. وقال الإمام أحمد: اليتيم يؤدب ويضرب ضربا خفيفا(37).

وكان عمر بن عبدالعزيز _رحمه الله_ يكتب للأمصار: لا يقرن المعلم فوق ثلاث فإنها مخافة للغلام(38). – يعني لا يجمع ثلاث ضربات. وسئل الإمام أحمد عن ضرب المعلم الصبيان، فقال: على قدر ذنوبهم، ويتوقى بجهده الضرب، وإن كان صغيرا لا يعقل فلا يضربه(39).

وتأمل أيها القارئ هذا الموقف من الأحنف حينما غاضب معاوية _رضي الله عنه_ ابنه يزيدا فقال له الأحنف بن قيس: هم ثمار قلوبنا وعماد ظهورنا ونحن لهم أرض ذليلة وسماء ظليلة وبهم نصول إلى كل جليلة، فإن غضبوا فأرضهم، وإن طلبوك فأعطهم يمحضوك ودهم، ويلطفون جهدهم، ولا تكن عليهم ثقيلا لا تعطيهم إلا نزرا فيملوا حياتك ويكرهوا قربك. فكان ذلك سببا لتراضيهما(40).

الإنكار عليهم:
جاءت النصوص بالأمر بالإنكار على الصغار إن ارتكبوا محرما فعن عمر بن أبي سلمة قال: كنت في حجر رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ وكانت يدي تطيش في الصحفة فقال لي: "يا غلام سم الله وكل بيمينك وكل مما يليك"(41).
روى سعيد بن جبير أنه كان مع عبدالله بن عمر _رضي الله عنهما_ في الطريق فإذا صبيان يرمون دجاجة فقال ابن عمر: من فعل هذا؟ فتفرقوا، فقال: إن رسول الله صلى عليه وسلم لعن من مثل بالحيوان(42).

اختيار أصحابهم:
قال علي بن جعفر: مضى أبي إلى أبي عبدالله- يعني الإمام أحمد- وذهب بي معه فقال له: يا أبا عبدالله، هذا ابني، فدعا لي، وقال لأبي: ألزمه السوق وجنبه أقرانه(43).
قال الغزالي: ويحفظ الصبي من الصبيان الذين عُوِّدوا التنعم والرفاهية ولبس الثياب الفاخرة(44).

_________________
(1) رواه البخاري (5997) ومسلم(2318).
(2) رواه أبو داود كما في العون 3/458، والترمذي كما في التحفة 10/278، وابن ماجه 2/1190 وحسنه الأرناؤوط في تحقيق جامع الأصول9/33.
(3) رواه البخاري في كتاب العلم 17، وكتاب المناقب 138، وكتاب الوضوء 10.
(4) أخرجه البخاري 8/10 .
(5) رواه البخاري 1/29.
(6) رواه مسلم (3009).
(7) مسؤولية الأب المسلم في تربية الولد.
(8) رواه أبو داود(5002).
(9) رواه البخاري 1/29.
(10) رواه البخاري 8/55.
(11) رواه مسلم 2/1000، والبخاري في الأدب المفرد (362) .
(12) رواه البخاري في الأدب المفرد(1303).
(13) رواه النسائي وغيره وصححه الألباني في صحيح الجامع/ 4947 والصحيحة/1278.
(14) رواهما ابن أبي الدنيا في كتاب العيال 1/411، 1/414 .
(15) أخرجه أحمد 2/513 .
(16) رواه ابن حبان كما في الموارد2233، والطبراني في الكبير3/40، والبيهقي في الكبرى مرسلا 2/263 ورواه أبو يعلى بمعناه 8/434 وحسنه العدوي في فقه تربية الأطفال/71..
(17) رواه أحمد 1/214 وقال في المجمع 5/263: رواه أحمد وفيه يزيد بن أبي زياد وفيه ضعف لين. وقال أبو داوود: لا أعلم أحدا ترك حديثه، وغيره أحب إلي منه، وروى له مسلم مقرونا، والبخاري تعليقا، وبقية رجاله ثقات..
(18) رواه البخاري في الأدب المفرد باب قبلة الصبيان.
(19) الآداب الشرعية 3/228.
(20) وابن أبي الدنيا في العيال 2/791.
(21) رواه البخاري في الأدب المفرد (1297و ابن أبي الدنيا في العيال 2/798.
(22) رواه مسلم 2/608.
(23) رواه أبو داود(4932) .
(24) رواه البخاري(6129) ومسلم(2150).
(25) رواه ابن أبي الدنيا في العيال 1/561.
(26) رواه الترمذي 4/1602 (2837) وقال الترمذي: حديث صحيح.
(27) رواه البخاري في الأدب المفرد (1066).
(28) رواه البخاري 5/2130 (5297) ومسلم 3/1604 (2030).
(29) رواه أحمد 3/447 وأبو داود 4/298 (4991)
(30) رواه الحاكم 1/127.
(31) رواه البخاري في الأدب المفرد 2/271.
(32) المغني 9/496.
(33) رواه أحمد 4/172.
(34) رواه أبو داود(4473).
(35) رواه ابن أبي الدنيا في العيال 1/494 وحسنه الألباني في صحيح الجامع.
(36) رواه ابن أبي الدنيا في العيال 2/832.
(37) الآداب الشرعية 1/477.
(38) ابن أبي الدنيا في العيال 1/531.
(39) الآداب الشرعية 1/477.
(40) ابن أبي الدنيا في العيال 1/308.
(41) رواه مسلم 3/1599 (2022).
(42) رواه الدارمي 2/84.
(43) رواه الخلال في الحث على التجارة /29.
(44) الإحياء 3/70.