العلاقة الإيمانية بين المربي وتلاميذه 2/2
19 رجب 1427
د. خالد رُوشه

[email protected]

ثانيًا: النصيحة في الله

هي أمر شرعي وسلوك إيماني مؤثر في جميع أنواع العلاقات بين المسلمين, والنصيحة طريقة رفيعة سامية في بث الخير ونشر الاستقامة بين الناس.
وتخيل معي مجتمعًا ينصح بعضه بعضًا ويتقبل بعضه النصح من بعض, كيف يكون حاله؟ إنك لتجد حاله في استقامة بعد اعوجاج, وإيجابية بعد سلبية, وتقدم بعد تأخر, لذا ولغيره شرع الله سبحانه أمر النصيحة بين عباده, والنصيحة الإيمانية باختصار هي "توجيه المرء أخاه نحو ما يحبه تجاه نفسه", فهو يوجه أخاه في الله في موقف أو إلى سلوك أو معرفة يحب أن لو كان مكانه لفعلها, فإذن النصيحة مدارها حول حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه)(1).
ولقد جعل الشارع النصيحة من المسلم شاملة حياته كلها.
* فعن تميم بن أوس الداري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الدين النصيحة) قلنا: لمن؟ قال: (لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم)(2).
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يبايع عليها.
* فعن جرير بن عبد الله رضي الله عنه قال: "بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على إقام الصلاة وإيتاء الزكاة والنصح لكل مسلم"(3).
وأما وصف النصيحة فقد بينه العلماء بيانًا شافيًا, قال ابن دقيق العيد: "النصيحة كلمة جامعة معناها إرادة جملة الخير, وهي من وجيز الأسماء ومختصر الكلام, وليس في كلام العرب كلمة مفردة يستوفى بها العبارة عن معنى هذه الكلمة"(4).
وقال الخطابي: "وأما نصيحة المسلمين فإرشادهم لمصالحهم في آخرتهم ودنياهم وإعانتهم عليها, وستر عوراتهم وسد خلاتهم, ودفع المضار عنهم وجلب المنافع لهم, وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر برفق وإخلاص, والشفقة عليهم, وتوقير كبيرهم, وتخولهم بالموعظة الحسنة, وترك غشهم وحسدهم, وأن يحب لهم ما يجب لنفسه من الخير, ويكره لهم ما يكره لنفسه من المكروه, والذب عن أموالهم وأعراضهم, وحثهم على التخلق بجميع ما ذكرناه من أنواع النصيحة"(5) اهـ.
فهذا الذي ذكره الإمام الخطابي في تعريف النصيحة شاف كاف لمن أراد التطبيق العملي للنصيحة, فراجعه مرات ومرات فإنه غال وثمين جدًا.
أ - أركان النصيحة: فأركان النصيحة خمسة فكرر معي ففي التكرار تذكار:
• الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر برفق وإخلاص وشفقة.
• ستر العورات.
• الإرشاد لمصالح الآخرة والدنيا بالتعليم والتوجيه والموعظة الحسنة.
• أن تحب لهم ما تحب لنفسك.
• دفع المضار والذب عن الأموال والأعراض.
ب - فرق بين النصيحة والتأنيب:
قال ابن القيم: "والفرق بين النصيحة والتأنيب أن النصيحة إحسان إلى من تنصحه بصورة الرحمة له والشفقة عليه, والغيرة له وعليه, فهو إحسان محض يصدر عن رحمة ورقة, ومراد الناصح بها وجه الله ورضاه والإحسان إلى خلقه.
فيتلطف في بذلها غاية اللطف, ويحتمل أذى المنصوح ولائمته, ويعامله معاملة الطبيب العالم المشفق على المريض المشبع مرضًا, وهو يحتمل سوء خلقه وشراسته ونفرته, ويتلطف في وصول الدواء إليه بكل ممكن, فهذا شأن الناصح.
وأما المؤنب فهو رجل قصده التعيير والإهانة وذم من أنبه, وشتمه في صورة النصح, فهو يقول له: يا فاعل كذا وكذا, يا مستحقًا للذم والإهانة في صورة ناصح مشفق, وعلامة ذلك أنه لو رأى من يحبه ويحسن إليه على مثل عمل هذا أو شر منه لم يعرض له, ولم يقل له شيئًا ويطلب له وجوه المعاذير فإن غلب قال: وإني ضمنت له العصمة؟ والإنسان عرضة للخطأ, ومحاسنه أكثر من مساويه, والله غفور رحيم"(6).
جـ - الارتباط بين الحب والنصيحة:
هو ارتباط وثيق لا ينفك, ارتباط المحرك بالفعل, فأنت إذا أحببت: نصحت, وإذا زاد حبك: زاد الإخلاص في نصحك, وقد لا تهتم بمن لا تحب فتهمل نصحه أو تؤثر السكوت على النصح له, ولكنك قلما تؤثر السكوت على نصح المحبوب, فأنت تريد له الخير ولو عاد ذلك عليك بشيء من ضرر. وانظر إلى حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم يتبين لك:
عن معاذ رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ بيده وقال: (يا معاذ إني لأحبك, ثم أوصيك يا معاذ: لا تدعن في دبر كل صلاة تقول: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك)(7).
فتأمل كلامه صلى الله عليه وسلم تجد أنه صلى الله عليه وسلم قد قدم إثبات الحب لمعاذ رضي الله عنه, ثم نصحه نصيحة تنفعه في آخرته وتضيء بها دنياه.
د - كيف تقوم النصيحة بدور مؤثر في العلاقة التربوية؟
إن المرء دائمًا في حاجة إلى من يوجهه ويحذره ويدفعه ويمنعه ويقيمه ويشجعه, إنه بحاجة دائمًا إلى من ينصحه, لا سيما إن كان في طريق ابتداء طلب العلم أو الدعوة إلى الله أو التوبة والاستقامة.
والمرء إذا فقد الناصح فقدْ فَقَدَ أهم عوامل الاستقامة وعدم الانحراف أو الاعوجاج, والمربي هنا يقوم بهذا الدور الهام وهو قائم على أساس الحب السابق الذي قد بناه بينهما, فيبتدئ المعلم بتوجيهه توجيهًا يملؤه الحب والشفقة والرحمة, ويبدأ بتعديل سلوكه تجاه الناس والمخلوقات خطوة بخطوة وشيئًا فشيئًا, حتى يعتاد الطالب أن ينصحه أستاذه ولا ينفر من نصيحته ولا يستكبر, والطريق الأكيد لضمان عدم نفرة الطالب من النصيحة والاستكبار عنها أن تخرج بحب ظاهر, وبعطف بالغ, وبكلام هين لين, وبتقديم الثناء الحسن فيما أحسن, وأن تكون النصيحة لله وحده.
وينبغي أن تستمر هذه النصيحة باستمرار العلاقة التربوية التعليمية, وعلى المربي أن يختار الأوقات المناسبة للتوجيه والطريقة المناسبة للتعديل والتقويم, وإذا استوفت النصيحة شروطها بين المربي والطالب أنتجت أحلى الثمار وبالغ الآثار, حتى إنه ليجد يومًا طالبه ومدعوه ليأتيه فيسأله أن ينصحه ويوجهه بغير ابتداء فعل من المعلم, وإذا حصل ذلك فهو دليل على نجاح عملية النصح بينهما, فلقد صارت النصيحة محبوبة لديه ولها مكان بين جانبيه, فهو يستأخرها إذا غابت عنه ويستوحش بدونها إذا أبطأت عليه.
وينبغي على المعلم أن يطبق جميع المعاني العامة للنصيحة, وقد سبق أن بينا أركان النصيحة, فليست النصيحة مجرد كلام لتوجيه الفعل ولكنها فعل أيضًا لتوجيه الفكر, فهي أمر بالمعروف للمتعلم ونهي عن المنكر, وهي قائمة حتى في غيبته, فهي ستر لعوراته ورد لغيبته ودفع للضرر عنه.
عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ما من امرئ مسلم ينصر مسلمًا في موضع ينتهك فيه عرضه ويستحل حرمته إلا نصره الله في موطن يحب فيه نصره, وما من امرئ خذل مسلمًا في موطن تنتهك فيه حرمته إلا خذله الله في موضع يحب فيه نصرته)(8).
وقد يجد المربي من طالبه يومًا رغبة أن ينصحه أو ينبهه إلى خير, وعندئذ يجب على المربي التواضع لنصحه وقبوله وشكره على فعله والدعاء له وتشجيعه على أن يعود إلى ذلك كلما رأى خيرًا يريد أن ينصحه به.
فالنصيحة عملية تبادلية بين الطرفين, إلا أنها تكثر من الطرف كثير العلم والتجربة القائم بالتوجيه والتربية أكثر, ولكن ذلك لا يمنع المبادلة في الخير فإنه ليس على النصح كبير.

* * *

ثالثا : العطاء في الله

وهو الأساس الثالث من أسس العلاقة الإيمانية بين الداعية والمدعو وبين المعلم والطالب, وبدونه لا تكتمل هذه العلاقة ولا تتم التمام الصحيح ولا تؤتي ثمارها المرجوة.
ونقصد بالعطاء في هذه العلاقة عدة معان يصعب أن تنفصل عن بعضها إذا أردنا إكمال معنى العطاء: الكرم والخدمة وقضاء الحوائج وإدخال السرور.
1ـ الكرم:
وهو خلق لازم للمؤمن ويتأكد لزومه لأهل العلم والدعوة, فينبغي على هؤلاء أن يكونوا كرامًا جوّادين إلى أقصى الدرجات؛ فإن الناس يبخلون لأنهم يجمعون الدنيا, وأهل العلم إنما يجمعون للآخرة, فينبغي عليهم بذل الدنيا للآخرة, وما ظنك بمربٍ أو معلم لا يتصف بصفة الكرم إلا أن يكون شحيحًا منفرًا للناس عن دعوته, وهذه هي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أمامك فتعلم منها:
* عن أبي أمامة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا ابن آدم إنك أن تبذل الفضل خير لك, وإن تمسكه شر لك, ولا تلام على كفاف, وابدأ بمن تعول, واليد العليا خير من اليد السفلى)(9).
وعن جابر رضي الله عنه قال: ما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئًا قط فقال: لا(10).
بل إنه صلى الله عليه وسلم كان يحذر من البخل والشح, بل كان يحذر من الادخار.
فعن أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما قالت: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا توكي فيوكِ الله عليك)(11) وتوكي أي تدخري.
وعن جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة, واتقوا الشح فإن الشح أهلك من كان قبلكم, حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم)(12).
ورسول الله صلى الله عليه وسلم - وهو خير المعلمين - علم أصحابه الجود والكرم والعطاء في كل الأحوال حتى صار ذلك سمة من سماتهم وخلقًا من أخلاقهم رضي الله عنهم.
عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: بينما نحن في سفر مع النبي صلى الله عليه وسلم إذ جاء رجل على راحلة له, فجعل يصرف بصره يمينًا وشمالاً, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من كان معه فضلُ ظهر فليعُد به على من لا ظهر له, ومن كان له فضل من زاد فليعد به على من لا زاد له), فذكر من أصناف المال ما ذكر حتى رأينا أنه لا حق لأحدٍ منا في فضل(13).
فعلى الدعاة إلى الله أن يتصفوا بصفة الكرم وأن يبذلوا أموالهم للناس وخصوصًا طلبة العلم والسائرين في طريق الاستقامة.
قال القاسمي رحمه الله(14): "والمواساة بالمال مع الإخوة على ثلاث مراتب:
أدناها: أن تنـزله منـزلة خادمك فتقوم بحاجته من فضلة مالك, فإذا سنحت له حاجة وكانت عندك فضلة عن حاجتك أعطيته ابتداءً ولم تحوجه إلى السؤال, فإن أحوجته إلى السؤال فهو غاية التقصير في حق الأخوة.
والثانية: أن تنـزله منـزلة نفسك وترضى بمشاركته إياك في مالك ونزوله منزلتك حتى تسمح بمشاطرته في المال.
والثالثة: وهي العليا أن تؤثره على نفسك وتقدم حاجته على حاجتك, وهذه رتبة الصديقين ومنتهى رتبة المتحابين.
فإن لم تصادف نفسك في رتبة من هذه الرتب مع أخيك, فاعلم أن عقد الأخوة لم ينعقد بعد في الباطن, وإنما الجاري بينكما مخالطة رسمية لا وقع لها في العقل والدين, فقد قال ميمون ابن مهران: من رضي من الإخوان بترك الإفضال فليؤاخ أهل القبور.
وأما الدرجة الأولى فليست أيضًا مرضية عند ذوي الدين, روي أن عتبة الغلام - رحمه الله - جاء إلى منـزل رجل كان قد آخاه فقال: أحتاج من مالك إلى أربعة آلاف, فقال: خذ ألفين, فأعرض عنه. وقال: آثرت الدنيا على الله؟ أما استحيتت أن تدعي الأخوة في الله وتقول هذا!
وأما الرتبة العليا فهي التي وصف الله تعالى بها المؤمنين في قوله: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [الشورى: 38], أي: كانوا خلطاء في الأموال لا يميز بعضهم رحله عن بعض.
كان منهم من لا يصحب من قال: نعلي؛ لأنه أضافه إلى نفسه, ومنهم من كان يعتق أمته إذا حدثته بمجيء أخيه وأخذه من ماله حاجته في غيبته سرورًا بما فعل.
وقال زين العابدين علي بن الحسين لرجل: هل يدخل أحدكم يده في كُم أخيه أو كيسه فيأخذ منه ما يريد بغير إذن؟ قال: لا. قال: فلستم بإخوان.
وقال ابن عمر رضي الله عنه: أهدي لرجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم رأس شاة, فقال: أخي فلان أحوج مني إليه, فبعث به إليه, فبعثه ذلك الإنسان إلى آخر, فلم يزل يبعث به واحد إلى آخر حتى رجع إلى الأول بعد أن تداوله سبعة. وقال أبو سليمان الداراني: لو أن الدنيا كلها لي فجعلتها في فم أخ من إخواني لاستقللتها له"(15).
2ـ الخدمة وقضاء الحوائج:
وأقصد به قيام كل أخ بخدمة أخيه وقضاء حوائجه ويبذل في ذلك جهده وطاقته, قال الشيخ أحمد فريد: "ومن أخلاق السلف رضي الله عنهم: كثرة سؤالهم عن أحوال أصحابهم, وذلك لأجل أن يواسوهم بما يحتاجون إليه من الطعام والثياب والنقود ووفاء الديون وتحمل الهموم, وهذا خلق صار أهله غرباء في هذا الزمان, فإن الناس اليوم على خلاف ذلك, وربما يقول أحدكم لصاحبه: إيش حالكم؟ فيقول: طيب, ويكتم أمره لعلمه بفراغ قلب صاحبه منه, وأن قوله: إيش حالكم؟ بحكم العادة من غير ثمرة, كما هو مشاهد, بل وكثيرًا ما يقول المار على صاحبه: إيش حالكم؟ ولا ينتظر الجواب مثلاً, فلا السائل يتربص حتى ينتظر الجواب, ولا المسئول يكلف نفسه النطق بالجواب" (16).
وروى الذهبي أن ابن المبارك إذا كان وقت الحج اجتمع إليه إخوانه من أهل مرو فيقولون: نصحبك, فيقول: هاتوا نفقاتكم, فيأخذ نفقاتهم فيجعلها في صندوق ويقفل عليها, ثم يكتري لهم ويخرجهم من مرو إلى بغداد, فلا يزال ينفق عليهم, ويطعمهم أطيب الطعام وأطيب الحلوى, ثم يخرجهم من بغداد بأحسن زي وأكمل مروءة حتى يصلوا إلى مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم فيقول لكل واحد: ما أمرك عيالك أن تشتري لهم من المدينة من طُرَفها؟ فيقول: كذا وكذا, ثم يخرجهم إلى مكة, فإذا قضوا حجهم قال لكل واحد منهم: ما أمرك عيالك أن تشتري لهم من متاع مكة؟ فيقول: كذا وكذا, فيشتري لهم ثم يخرجون من مكة.
فلا يزال ينفق عليهم إلى أن يصيروا إلى مرو, فيجصص بيوتهم وأبوابهم, فإذا كان بعد ثلاثة أيام, عمل لهم وليمة وكساهم فإذا أكلوا وسروا, دعا بالصندوق, ففتحه ودفع إلى كل رجل منهم صرته عليها اسمه"(17).
وروى ابن الجوزي عن مصعب بن مصعب قال: قدم المروزي إلى بغداد يريد مكة, وكنت أحب أن أصحبه, فأتيته واستأذنته في الصحبة فلم يأذن لي في تلك السنة, ثم قدم سنة ثانية وثالثة فأتيته فسلمت عليه وسألته فقال: أعزم على شرط: أن يكون أحدنا الأمير لا يخالفه الآخر, فقلت: أنت الأمير. فقال: لا بل أنت, فقلت: أنت أسن وأولى. فقال: فلا تعصين, فقلت: نعم, فخرجت معه, وكان إذا حضر الطعام يؤثرني فإذا عارضته بشيء قال: ألم أشترط عليك أن لا تخالفني؟ فكان هذا دأبنا حتى ندمت على صحبته لما يُلحق نفسه من الضرر, فأصابنا في بعض الأيام مطر شديد ونحن نسير, فقال لي: يا أبا أحمد اطلب الميل [يعني اذهب إلى أقرب حجر يبنى للمسافر للحج للاهتداء به] ثم قال لي: اقعد في أصله, فأقعدني في أصله وجعل يديده على الميل وهو قائم قد حنا عليّ وعليه كساء قد تجلل به يُظلني من المطر, حتى تمنيت أني لم أخرج معه لما يلحق نفسه من الضرر, فلم يزل هذا دأبه حتى دخل مكة رحمة الله عليه"(18).
قال القاسمي رحمه الله: "وللأخوة حق في قضاء الحاجات والقيام بها قبل السؤال وتقديمها على الحاجات الخاصة وهذه أيضًا لها درجات.
فأدناها: القيام بالحاجة عند السؤال والقدرة ولكن مع البشاشة والاستبشار وإظهار الفرح وقبول المنة, قال بعضهم: إذا استقضيت أخاك حاجة فلم يقضها فذكره الثانية فلعله أن يكون قد نسي, فإن لم يقضها فكبر عليه واقرأ هذه الآية: {وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ}, وكان في السلف من يتفقد عيال أخيه وأولاده بعد موته أربعين سنة يقوم بحاجاتهم يتردد كل يوم إليهم ويمونهم من ماله, فكانوا لا يفقدون من أبيهم إلا عينه, بل كانوا يرون منهم ما لم يروا من أبيهم في حياته, وكان أحدهم يتردد إلى باب دار أخيه يقوم بحاجته من حيث لا يعرفه أخوه, وبهذا تظهر الشفقة والأخوة, وإذا لم تثمر الشفقة حتى يشفق على أخيه كما يشفق على نفسه فلا خير فيها, قال ميمون بن مهران: من لم تنتفع بصداقته لم تضرك عداوته, وبالجملة فينبغي أن تكون حاجة أخيك مثل حاجتك أو أهم من حاجتك, وأن تكون متفقدًا لأوقات الحاجة غير غافل عن أحواله كما لا تغفل عن أحوال نفسك, وتغنيه عن السؤال إلى الاستعانة, ولا ترى لنفسك حقًا بسبب قيامك بها, بل تتقلد منه بقبول سعيك في حقه وقيامك بأمره"(19).
3- إدخال السرور:
وهو المعنى الثالث المكمل لمعاني العطاء ولا عطاء بغير إدخل السرور؛ إذ إن السرور هو الدليل على الانتفاع بالعطاء والبذل, وهو الدليل على الانتفاع بالكرم والخدمة, لذا كان السرور الذي يدخله المسلم على أخيه من أحب الأعمال إلى الله سبحانه كما قاله صلى الله عليه وسلم, فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن من أحب الأعمال إلى الله إدخال السرور على قلب المؤمن, وأن يفرِّج عنه غمًا, أو يقضي عنه دينًا, أو يطعمه من جوع) (20).
وهناك ألف طريق وطريق لإدخال السرور على قلب أخيك أذكرك ببعضها:
• تبشيره بالبشرى التي يحبها.
• إخباره بأخبار الخير التي ينتظرها.
• قضاء دينه.
• إهداؤه الهدية.
• إخباره بأنك تحبه.
• إكرام أهله وأولاده.
• توقيره بين معارفه وأصحابه.
• المسارعة في محباته.
وغيرها كثير جدًا وهي معلومة معروفة ولكننا فقط نذكر {فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} [الذاريات: 55], وقد يكون إدخال السرور على المسلم بكلمة خير واحدة أو ببسمة رائقة أو بمصافحة مقبلة فتأمل ذلك.
4- معان قريبة:
هذا ويلحق بتلك المعاني كل معنى حسن يزيد في إيضاح المراد من العطاء من التضحية في سبيل الأخوة والصبر عليها وتحمل الأذى والثبات أمام التقلبات والتغيرات.
وعلى المعلم أن يضرب للمدعو المثال في التضحية والعطاء بفعاله, فربما تلقى المعلم السهام بصدره رجاء ألا تصيب الناس, وربما وضع نفسه موضع الضرر حتى لا يصيب الناس الضرر(21), وهو في كل ذلك يضرب أروع الأمثلة في الصبر لله والتضحية لله والبذل لله, فيكون معطاءً أينما كان, باذلاً أينما حل, تنطق أفعاله كلها بهذا المعنى, وهو في ذلك يقتدي بمعلمه صلى الله عليه وسلم .
ففي الصحيح من حديث عائشة رضي الله عنها أنها سئلت: هل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي قاعدًا؟ قالت: نعم, بعدما حَطَمه الناس(22).
وكان الشافعي رحمه الله ينفي أن تصح مروءة داعية يطلب الراحة, فكان يقول: "طلب الراحة في الدنيا لا يصح لأهل المروءات, فإن أحدهم لم يزل تعبان في كل زمان".
وقال ابن الجوزي عن سبيل المؤمن ليكون من صفوة الله: إذا خلع الراحة أعطى المجهود في الطاعة.
وأما الإمام أحمد فقد ترجمت سيرته في محنته وحياته هذه الأوصاف عملاً حتى قال لابنه: "يا بني, لقد أعطيت المجهود من نفسي" وهو بذلك قد حد حدًا لا يسع الداعية النقصان فيه ولا التخلف عنه.
فعلى الداعية إلى الله بذل المجهود من نفسه, واستفراغ كل طاقته في خدمة الدعوة, طريق رسمه الإمام أحمد لا يسعنا أن نحيد عنه, ومقدار قدَّره للدعاة ليس لهم أن يقفوا دونه, نصيبًا مفروضًا هو: المجهود من النفس, وعلامته حين المحن: الصبر على الأذى حتى الموت, وعلامته في حياتك اليومية: أنك إن جئت إلى فراشك ليلاً لتنام وجدت لركبتيك أنينًا وفي عضلاتك تشنجًا, لكثرة تعبك في نهارك.
ومن لا يعلم موازين المؤمنين يظن ذلك حرمانًا من لذة الدنيا, ولكن من أوتي علم الكتاب يعرف أن الراحة الحقيقية: راحة الآخرة لا راحة الحياة الدنيا, ولذلك لما قيل للإمام أحمد: متى يجد العبد طعم الراحة؟ قال: عند أول قدم يضعها في الجنة(23).
ولما تعجب غافل من باذل وقال له: إلى كم تتعب نفسك؟ كان جواب الباذل سريعًا حاسمًا: راحتها أريد(24), فالطالب الصادق في طلبه كلما خرب شيء من ذاته جعله عمارة لقلبه وروحه, وكلما نقص شيء من دنياه جعله زيادة في آخرته, وكلما منع شيئًا من لذات دنياه جعله زيادة في لذات آخرته, وكلما ناله هم أو حزن أو غم جعله في أفراح آخرته(25).

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) رواه البخاري ومسلم عن أنس رضي الله عنه, البخاري 1/ح 13/ فتح, مسلم 1/ إيمان / 67/71.
(2) رواه مسلم 1/ إيمان / 74/95.
(3) متفق عليه, أخرجه البخاري 1/57 / فتح, ومسلم 1/ إيمان / 75/ 97.
(4) شرح الأربعين - ابن دقيق العيد، ص 29، دار البصيرة.
(5) رواه أبو داود 2/ ح1522, والنسائي 3/ ح1302 صححه الألباني في صحيح النسائي برقم 1236.
(6) أخرجه أحمد 4/30, وأبو داود 4884, وحسنه الألباني في صحيح الجامع 5690.
(7) رواه مسلم 2/ زكاة/ 718/ ح97, والترمذي 4/ ح2343.
(8) متفق عليه, البخاري 10/ ح6034/ فتح, مسلم 4/ فضائل/ 1805/ ح56.
(9) أخرجه البخاري 3/ ح1433/ فتح.
(10) أخرجه مسلم 4/ بر / 1996 / ح56.
(11) رواه مسلم 3/ لقطة / 1354/ ح18.
(12) نقلاً عن كتاب: موعظة المؤمنين, ومعلوم أنه اختصار لإحياء علوم الدين للغزالي - رحمه الله - فنسبة القول للقاسمي هنا هي نسبة لاختصاره فقد يكون الكلام للغزالي نفسه.
(13) موعظة المؤمنين: للقاسمي جـ1 ص178, 179.
(14) من أخلاق السلف, أحمد فريد, ص52.
(15) تهذيب سير أعلام النبلاء 2/ 654.
(16) أين نحن من أخلاق السلف, ص112.
(17) موعظة المؤمنين, للقاسمي, ص180.
(18) أخرجه البيهقي في شعب الإيمان, وحسنه الألباني في الصحيحة 1494, صحيح الجامع 1096.
(19) تهذيب سير أعلام النبلاء 2/ 654.
(20) أين نحن من أخلاق السلف, ص112.
(21) وهو من باب تحمل الضرر الخاص في سبيل تفادي الضرر العام.
(22) رواه مسلم في صحيحه برقم 732, كتاب صلاة المسافرين وقصرها, باب جواز النافلة قائمًا وقاعدًا.
(23) طبقات الحنابلة 1/293, مناقب الإمام أحمد لابن الجوزي 339.
(24) الفوائد لابن القيم، ص 64.
(25) الرقائق ص61, 62.