مدرسة قيام الليل ( 2)
29 رمضان 1427
د. خالد رُوشه

[email protected]

( سبق في الجزء الأول من المقال أن تحدثنا حول معنى قيام الليل في الإسلام وقارنا مقارنة بسيطة حول ليلنا وليل الذين قامت على أيديهم أمة الإسلام من الصحابة والأولين , ثم تحدثنا حول صفات أهل الليل في القرآن الكريم وفي السنة النبوية , كما تحدثنا عن أحوال النبي صلى الله عليه وسلم بالليل في قيامه وعبادته , كما تحدثنا عن ثواب قيام الليل وفضله , ثم نظرنا نظرة لليل الصالحين كيف هو .. ونكمل معا في الجزء الثاني ما يتعلق بنصائح عملية وتربوية حول تلك العبادة العظيمة )

9ـ طلبة العلم وقيام الليل([1]):

إن طالب العلم الصادق يختلف ليله عن ليل اللاهين والغافلين, فليله عبادة ووقوف بين يدي الله سبحانه, يسأله من فضله, ويستغفره من تقصيره في حقه, ويدعوه بما يحب, ويناجيه مم يشكو.

وإن قومًا من طلبة العلم ادعوا طلبهم للعلم وأهملوا ليلهم وقيامه فعلتهم غبرةٌ وحسرة, وشق عليهم العلم وساءت أخلاقهم, ذلك أنهم باتوا ليلهم يغطون في نوم عميق, فما أيقظهم إلا حر الشمس!!

ولم يكن العلماء يظنون أن هناك من طلبة العلم ولا من أهله من ينام الليل كله ولا يكون له عبادة فيه, بل كانوا ينكرون على من يقصر فيه.

قال أبو عصمة البيهقي: "بت ليلة عند أحمد بن حنبل, فجاء بالماء فوضعه، فلما أصبح, نظر في الماء فإذا هو كما كان, فقال: سبحان الله, رجل يطلب العلم لا يكون له ورد بالليل!"

وذكر ابن الجوزي والذهبي أن طاوسًا جاء في السحر يطلب رجلاً فقالوا: هو نائم, قال: ما كنت أرى أن أحدًا ينام في السحر.

وعن أبي الأحوص قال: آلى محمد بن النضر على نفسه ألا ينام إلا ما غلبته عينه.

قال أبو بكر الأنباري: كان أبو عبيد رحمه الله يقسم الليل أثلاثًا؛ فيصلي ثلثه, وينام ثلثه, ويصنف الكتب ثلثه.

وعن نافع أنه قال: كان ابن عمر رضي الله عنه يحيي الليل صلاة ثم يقول: يا نافع أسحرنا؟ فأقول: لا, فيعاود الصلاة إلى أن أقول: نعم, فيقعد ويستغفر ويدعو حتى يصبح.

وعن داود بن إبراهيم أن الأسد حبس ليلةً الناس في طريق الحج, فدق الناس بعضهم بعضًا, فلما كان السحر ذهب عنهم, فنزلوا وناموا, وقام طاوس يصلي, فقال له رجل: ألا تنام؟ فقال: وهل ينام أحد السحر؟!

10ـ كيف نربي أنفسنا على قيام الليل؟!

لا شك أن هذه العبادة العظيمة - قيام الليل - هي كنز من الكنوز الإيمانية الغالية, ولكنها - وكما هو مشاهد - من العبادات التي قد صارت غريبة على مجتمع المسلمين في هذه الأزمان... وما ذلك إلا لبعدهم عن إحياء سنة النبي e, وهي عبادة لا ينالها إلا المخلصون الصادقون الذين هم قد وقر الإيمان في قلوبهم, فيفضلون الوقوف بين يدي ربهم في جوف الليل حيث لا يراهم الناس, يفضلون ذلك على لذات الدنيا الأخرى.

وكم نحن بحاجة إلى التربية على تلك العبادة العظيمة, ولكننا وللأسف الشديد نكتفي بأن نستمع فيها إلى موعظة, أو نذكر أنفسنا أن هناك عبادة تسمى عبادة الليل, أو أن نقرأ عنها في كتب الرقائق, ثم نحن بعد كل ذلك يصعب علينا العمل بها ويشق علينا الثبات عليها, فتمر علينا الأيام, ويغزو الشيب مفارقنا, بل يدق الموت أبوابنا ونحن لا نزال بعيدين عن تلك العبادة العظيمة.

ولا شك أن هناك من الخطوات والأعمال ما ييسر علينا أن نربي أنفسنا على هذه العبادة ولكننا قد نغفل عنها, ونحن نقف معك عند بعض هذه الخطوات التي تعيننا على قيام الليل والله الموفق:

أ - عقد العزم والنية على قيام الليل:

فكثير منا يتمنى أن يقوم الليل ولكنه لم يعقد عزمه ونيته على ذلك ولم يؤكد بما لا يدع مجالاً للتردد أنه يريد أن يقيم هذه العبادة, فتظل عبادته في مجال التمني لا غير ولا يخطو في سبيل العمل أي خطوة, فمن كان عنده سفر هام بالليل يجد نفسه يقوم من نومه وبغير أن يوقظه أحد, ذلك لأنه عقد عزمه ونيته أن يسافر ويشعر بأهمية السفر وأهمية ما يريده منه, وكذلك فإنه من علم قيمة هذه العبادة الكريمة وعقد عزمه على أن يقوم واستعان بالله في ذلك ودعا الله أن يقيمه بين يديه في جوف الليل وكرر الدعاء, فلا شك أنه يكون قد خطا خطوة قوية في طريق قيامه بالليل.

ب - تعاون أهل البيت على قيام الليل:

وهذا التعاون الذي أقصده إنما يتأتى بعد أن يبين لهم رب البيت منزلة قيام الليل ويحببهم فيه ثم يقسم الأدوار ويهتم بأمر القيام ويتابع ذلك, فإن في ذلك دفع لجميع أهل البيت للانتظام في تلك العبادة.

ولقد كان ذلك التعاون هو حال السلف الصالحين, وإليك هذه الأمثلة:

* حديث النبي "صلى الله عليه وسلم": (رحم الله امرأة قامت من الليل ثم أيقظت زوجها فصلى, فإن أبى نضحت الماء في وجهه) ([2]).

وذكر الذهبي عن إبراهيم بن وكيع قال: كان أبي - وكيع - يصلي, فلا يبقى في دارنا أحد إلا صلى, حتى جارية لنا سوداء.

وذكر الإمام أحمد في الزهد: أن أبا هريرة رضي الله عنه كان هو وامرأته وخادمه يتعقبون الليل, يصلي هذا ثم يطرقهم فيقومون فيصلي هذا, وهكذا.

وذكر الذهبي أن زيد بن الحارث كان يقسم الليل ثلاثة أجزاء بينه وبين أولاده.

وكان الحسن بن علي يأخذ من الليل أوله, وكان الحسين يأخذ من آخره.

وكان سليمان التيمي يدعو أهله ليتنافسوا في ليلهم ويقول: هلموا حتى نجزئ الليل, فإن شئتم كفيتكم أوله, وإن شئتم كفيتكم آخره.

وقال وكيع بن الجراح: كان علي والحسن ابنا صالح بن حي وأمهم قد جزءوا الليل ثلاثة أجزاء.

جـ - النوم على طهارة بنية القيام:

وقد ورد في ذلك أحاديث صحيحة تحث على الطهارة قبل النوم مع استصحاب نية القيام, وأن العبد إذا فعل ذلك كتب له أجر ما نوى.

* عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله "صلى الله عليه وسلم": (من بات طاهرًا بات في شِعاره مَلَك, فلا يستيقظ إلا قال الملك: اللهم اغفر لعبدك فلان فإنه بات طاهرًا) ([3]).

* وعن معاذ بن جبل رضي الله عنه عن النبي "صلى الله عليه وسلم" قال: (ما من مسلم يبيت طاهرًا يتعار من الليل, فيسأل الله خيرًا من أمر الدنيا والآخرة إلا أعطاه الله إياه) ([4]).

* وعن أبي الدرداء رضي الله عنه يَبْلغ به النبي "صلى الله عليه وسلم" قال: (من أتى فراشه وهو ينوي أن يقوم يصلي من الليل, فغلبته عينه حتى أصبح, كتب له ما نوى, وكان نومه صدقة عليه من ربه)([5]).

د - كراهة الحديث بعد العشاء:

عن أبي برزة قال: كان رسول الله "صلى الله عليه وسلم" لا يبالي بتأخير صلاة العشاء إلى نصف الليل, وكان لا يحب النوم قبلها ولا الحديث بعدها([6]).

قال الإمام النووي: "وسبب كراهة الحديث بعدها أنه يؤدي إلى السهر, ويخاف منه غلبة النوم عن قيام الليل أو الذكر فيه أو عن صلاة الصبح, قال: ولأن السهر في الليل سبب للكسل في النهار عما يتوجه من حقوق الدين والطاعات ومصالح الدنيا"([7]).

وبعض الناس يحلو لهم السهر بعد العشاء في الأحاديث الدنيوية والتنزه وقضاء الأوقات ويعتادون النوم قبل السحر([8]) بقليل, فأنى لهم أن يصلوا نافلة أو حتى يستيقظوا لفريضة!!

ولكن ينبغي على كل من يريد أن يصلي قيام الليل أن يأوي إلى بيته في أول الليل, فيتفقد حال أهله وأولاده ساعة ثم ينام.

وعلى كل طالب علم أو ملتزم بسنة النبي "صلى الله عليه وسلم" أن يحرص على عدم اللغو في الحديث بعد العشاء أو تضييع أوقاته إلا فيما ينفع في الطاعات.

قال الإمام النووي: "والمكروه من الحديث بعد العشاء هو ما كان في الأمور التي لا مصلحة فيها, أما ما فيه مصلحة وخير فلا كراهة فيه, وذلك كمدارسة العلم وحكايات الصالحين, ومحادثة الضيف والعروس للتأنيس, ومحادثة الرجل أهله وأولاده للملاطفة والحاجة, ومحادثة المسافرين بحفظ متاعهم أو أنفسهم, والحديث في الإصلاح بين الناس والشفاعة إليهم في خير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, قال: ثم كراهة الحديث بعد العشاء المراد بها بعد صلاة العشاء لا بعد دخول وقتها, واتفق العلماء على كراهة الحديث بعدها إلا ما كان في خير..." ([9]).

قال الذهبي: قال عبد الله بن أحمد: كان أبي يقرأ كل يوم سبعًا, وكان ينام نومة خفيفة بعد العشاء, ثم يقوم إلى الصباح يصلي ويدعو.

هـ - أسباب أخرى معينة على قيام الليل:

ذكر أهل العلم أسبابًا أخرى تعين على قيام الليل نذكرها لك باختصار لعله أن يكون فيها الشفاء:

· لا تكثر الأكل بالليل لأنه سبب لغلبة النوم, وليتخير من طعام الليل ما يسهل هضمه وليس ما يطول هضمه كالبقول واللحوم والبيض, فإنها تستقر في المعدة طويلاً, وتجعل الدم يجتمع عند المعدة فيسبب الخمول والنوم.

· لا تتعب نفسك بالنهار في الأعمال التي تتعب الجسد وتضعف الأعصاب, فإن كنت ولابد أن تفعل ذلك فلا تترك القيلولة لتريح جسدك من التعب والمشقة ولتستريح من عناء جهدك ولتستطيع أن تقوم من ليلك, ولقد أوصى النبي e بنوم القيلولة, وكان يفعله الصالحون ويحافظون عليه.

· طهر قلبك من الحقد على المسلمين ومن الحسد لهم ومن النظر إلى متاعهم وما أنعم الله عليهم, فإن ذلك مرض في القلب يعوقك عن القيام بين يدي الله.

قال الفضيل بن عياض: إذا لم تقدر على قيام الليل وصيام النهار فاعلم أنك محروم كبلتك خطيئتك.

واشتكى شاب إلى الحسن عدم قيام الليل فقال له الحسن: قيدتك خطاياك.

وقال الحسن: إن الرجل ليذنب الذنب فيحرم به قيام الليل.

11ـ نصائح للمربين:

· لابد للمربي أن يكون قدوة للناس في صلاة الليل فلا يمكن أن يأمرهم بها ولا يفعلها.

· يجب أن يصحب تدريس فضل قيام الليل تطبيق عملي للقيام, وأذكر أن بعض أساتذتنا - حفظه الله - كان يقرأ علينا باب قيام الليل من كتاب مختصر منهاج القاصدين, ثم يأخذنا لنقوم الليل في أحد المساجد, وكان لذلك أثر كبير علينا لا ينسى.

· يحسن أن يفرق المربي بين صلاة الليل في جماعة وصلاة الليل مفردًا, وعليه أن يدفع طلبته للصلاة فرادى ما استطاع إلى ذلك؛ لأنها أقوى تأثيرًا على النفس وأدعى للإخلاص وأرجى أن يتعود الإنسان على الصلاة وحده, وهي أصل صلاة الليل.

· يحسن بالمربي أن لا يجمع الناس لصلاة الليل في وقت يتفقون عليه, حذرًا من الوقوع في الحرج الشرعي, إذ إنه لا دليل على جواز تحديد وقت معين لصلاة الليل جماعة في مسجد والانتظام عليه([10]), ولكن عليه - إن كان لوجود الناس أهمية ما - أن يصلوا بغير اتفاق على موعد ولا دعوة للناس, ولكن أن يستغل ظروف وجودهم في مكان ما فيقف للصلاة فيصلون خلفه والله تعالى أعلم([11]).

· على المربي أن يتفقد المتعلمين ويتابعهم في عبادة قيام الليل وأن يحثهم على التعود عليها والانتظام عليها, ويحسن أن يكون ذلك مع كل فرد على حدة, وإن لم يتيسر له أن يكلم كلاً على حدة فيسألهم في مجلسه مذكرًا إياهم بالإخلاص وعدم مراعاة الناس وبالصدق والتجرد, فعن إسحاق بن إبراهيم قال: كنا في مجلس الثوري([12]) وهو يسأل رجلاً رجلاً عما يصنع في ليله فيخبره, حتى دار القوم فقالوا: يا أبا عبد الله قد سألتنا فأخبرناك, فأخبرنا أنت كيف تصنع في ليلك؟ فقال: لها عندي أول نومة تنام ما شاءت لا أمنعها, فإذا استيقظت فلا أقيلها والله.

· يمكن الاستعانة بطرق مختلفة للايقاظ - إن صعب على الناس الاستيقاظ - فيمكن أن يتعاونوا فيما بينهم لإيقاظ بعضهم بعضًا عن طريق الهاتف أو أي وسيلة أخرى, ويمكن كذلك لكل إنسان أن يكتب لنفسه جدولاً للمحاسبة على قيام الليل, فيحاسب نفسه كم قصر وكم أدى, فيدفعه علمه بالتقصير إلى التقدم.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
([1]) انظر في هذه الآثار: صفة الصفوة، تهذيب سير أعلام النبلاء.

([2]) سبق تخريجه ص 385 وهو صحيح.

([3]) رواه ابن حبان وصححه الألباني (الترغيب برقم 596) والشعار: هو الثوب أو الغطاء.

([4]) رواه أبو داود وصححه الألباني (صحيح أبي داود والترغيب برقم 597). (ويتعار: يعني يستيقظ).

([5]) رواه النسائي وصححه الألباني (صحيح النسائي والترغيب برقم 600).

([6]) متفق عليه واللفظ لمسلم (البخاري 2/ 771/ فتح), ومسلم (1/ مساجد/ 447/ 236).

([7]) شرح صحيح مسلم للنووي, جـ3 ص158.

([8]) السحر: آخر الليل.

([9] ) شرح صحيح مسلم للنووي جـ3، ص 158.

([10]) قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: "فلو أراد الناس أن يجتمعوا على قيام الليل في المساجد جماعة في غير رمضان لكان هذا من البدع, ولا بأس أن يصلي الإنسان جماعة في غير رمضان في بيته لفعل الرسول e, فقد صلى بابن عباس وابن مسعود وحذيفة بن اليمان جماعة في بيته لكن لم يتخذ ذلك سنة راتبة ولم يكن أيضًا يفعله في المسجد" اهـ. الممتع جـ4 ص83.

([11]) وانظر: الاختيارات العلمية لشيخ الإسلام ص64, والاعتصام للشاطبي .

([12]) صفة الصفوة ، 3/98، دار الكتب العلمية.