نظامنا المعرفي و أسباب التخلف الحضاري
7 شوال 1427

يمثل النظام التعليمي والمعرفي في أي مجتمع من المجتمعات الآلية الأهم والمرتكز الأبرز الذي ترتكز عليه الأجيال في ثقافتها وتنمية مداركها ويمثل ذلك النظام حجر الأساس في تحديد مستوى القدرة على التطبيق الفعلي للمعلومات النظرية المدروسة عبر سني التعليم , ويعتبر المنهج الإسلامي هو أول المناهج دافعية للإيجابية وتشجيعا للتطبيق للمعلومات المتعلمة , يقول ابن مسعود رضي الله عنه : " لم نكن نتعلم القرآن كتعلمكم ذلك , إنما كنا نتعلم عشر آيات بعشر آيات فإذا حفظناها وعملنا بها تعلمنا عشرا أخر " و يقول أحد السلف " هتف العلم بالعمل فإن أجابه وإلا رحل " ومنهج الإيجابية التعليمية وتطبيق النموذج المعرفي الناجح كما أنه سبيل التقدم والنمو فهو أيضا الوصفة المثلى للتأخر والتخلف إذا أهمل أو أسيء تنفيذه , وهو للأسف ما تشتكي منه معظم دولنا الإسلامية .

في حديث لصاحب شركة البرمجة العالمية " ميركروسفت " بيل غيتس قال – منتقدا نظام التعليم الأمريكي _ : (إن المدارس الأميركية باتت بالية، ومدارسنا الثانوية حتى عندما تعمل وتدار على النحو المخطط له، لا تستطيع أن تدرس التلاميذ ما ينبغي أن يحصلوا عليه من معرفة في عالم اليوم، وتدريب قوة عمل المستقبل في مدارسنا الثانوية بوضعها الراهن أشبه بمحاولات تدريس تلاميذنا علوم أجهزة الكمبيوتر الحديثة باستخدام الأجهزة التي ظهرت قبل خمسة عقود، جرى تصميم مدارسنا على نحو يجعلها قادرة على تلبية احتياجات القرن الواحد والعشرين، فإننا سنحد وربما نحطم، قدرات ملايين الأميركيين سنوياً).

فإذا كان هذا هو حال التعليم في الولايات المتحدة التي يعتبرها العالم أفضل نظم التعليم العالمية من ناحية التطبيق المعرفي والتقني فكيف يكون حال التعليم عندنا ، وكم هو بحاجة ملحة لإنقاذ روحه، أو ما بقي منها بعد؟!.
نحن لا نشك أن منهجنا الإسلامي التعليمي المعرفي هو أفضل المناهج وأعظمها على الإطلاق ولكن هذا المنهج السامي العظيم يفتقر في بلادنا للتطبيق والتنفيذ , إلا أننا في الواقع الحسير قد حاولنا التشبه بالغرب ونبذنا منهجنا الرائع ثم فشلنا في التشبه بإيجابيات النظم المعرفية والتعليمية الغربية وسقطنا في هوة عميقة من التخلف العقيم ..!!

إننا كثيراً ما نسمع في بلادنا العربية عن تطوير مناهج التعليم، ولكن ذلك كله يتحول ، مثل غيره من دعوات الإصلاح والتطوير، إلى جعجعة بلا طحين، يكثر الحديث فيها وعنها، من دون أن تجري ترجمتها على أرض الواقع إلى أفعال ملموسة، ربما لعدم توفر الرغبة والإرادة الصادقتين والجادتين، وربما لعدم توفر القدرة والإمكانية على ذلك أيضاً.
فمدارسنا وجامعاتنا مكتظة بأعداد ضخمة من الطلاب، تفوق قدرتها وطاقتها على الاستيعاب، والميزانيات المخصصة للتعليم، والثقافة عموماً، هي الأقل والأفقر قياساً إلى بقية دول العالم النامية وليس المتقدمة، كماليزيا التي تخصص 18% من ميزانيتها لتطوير التعليم والمناهج، على سبيل المثال لا الحصر، أما عن المستوى المادي والاجتماعي للمعلم عندنا، فحدث ولاحرج، ويكفي للمقارنة أن نذكر أن متوسط المرتب السنوي للمدرس في ألمانيا أو اليابان هو 50 ألف دولار سنوياً، بينما متوسط المرتب السنوي للمدرس في البلاد العربية الغنية هو 5 آلاف دولار، وفي البلاد العربية الفقيرة ألف دولار.

أساليب التعليم لدينا قديمة وبالية، أما أساليب التعليم الحديثة، في الدول الأخرى، فإنها تهتم على نحو متكامل بتنمية الفرد تنمية متوازنة في المجالات المعرفية المختلفة، مع الاهتمام بالبحوث والدراسات، مع ضرورة وجود مراكز خاصة لها، بما يساعد على إنتاج قوى عاملة مؤهلة ومدربة، يمكنها الحصول على فرصتها في العمل والحياة، وليس البطالة والتعطل.

وفي معايير التنمية يعتبر التعليم أحد العناصر الحاسمة في تحديد مستقبل أي مجتمع، فجوهر التنمية هو بناء البشر وتطوير قدراتهم بما يمكنهم من أن يصبحوا قوى كفؤة ودافعة للتقدم والتطور. وكلما ازداد الاهتمام بتطوير العملية التربوية والتعليمية، من حيث المحتوى والأدوات، كلما أصبح المجتمع أكثر قدرة على التعامل مع معطيات العالم المتغير بسرعة مدهشة.

والنمو الاقتصادي يعتمد الآن، بكل فروعه على نوعية المعلومة. وبات منتجو المعلومات يحتلون في السنوات الأخيرة، أهمية ومكانة تفوقان أهمية ومكانة منتجي السلع المادية. وأضحت صناعة الاتصالات وأجهزتها تتبوأ مكان الصدارة في الحياة الاقتصادية الدولية.

تحذير من الأمم المتحدة

أول تقرير مفصل نشره برنامج الأمم المتحدة الإنمائي UNDP حذر من خطورة تدني مستوى التعليم في العالم العربي، مؤكداً أنه على الرغم من الجهود التي بذلها العالم العربي في ميدان التربية والتعليم منذ منتصف القرن العشرين، أي بعد استقلال معظم الدول العربية، لازال مستوى التعليم دون معدل معظم البلدان النامية. فنسبة الأمية بين البالغين، وإن انخفضت من 60% إلى 43% في منتصف التسعينات، فإن التقرير يرى أنها عادت للارتفاع وأن العالم العربي دخل القرن الحادي والعشرين بعبء أكثر من 60 مليون أمي، غالبيتهم من النساء. ومن المتوقع ألا يستطيع العالم العربي القضاء على أمية الرجال قبل 2025، أما بالنسبة للنساء، فسوف لن يكون ذلك قبل 2040.
فقد رفعت الدول العربية نسبة الملتحقين بالمراحل التعليمية الثلاث، الابتدائي والمتوسط والعالي، من 31 مليون في الثمانينات إلى 56 مليون عام 1995، كما يعد العالم العربي أفضل من بعض الدول النامية فيما يتعلق بنسبة الدخل القومي العام الذي ينفق على التعليم.
وارتفع الإنفاق على التعليم في الدول العربية من 18 مليار دولار عام 1980 إلى 28 مليار دولار عام 1995. ولكن هذه الطفرة في نفقات التعليم بدأت تتراجع مع اعتماد العديد من الدول العربية برامج إصلاح هيكلي أدت إلى تخفيض الإنفاق على الخدمات العمومية.
ويرى التقرير أن الأنظمة التربوية العربية تفتقر إلى التنوع والى الجودة التي تسمح للطالب باقتناء المعرفة الضرورية للإبداع، والقادرة على مساعدة الدول العربية على الخروج من دوامة التخلف. وما هو أخطر في نظر معدي التقرير كون هذا النقص في جودة التعليم قد يهمش العالم العربي ويجعله عاجزا على مواكبة التطورات التكنولوجية والمعلوماتية في العالم.

وتقارير التنمية الإنسانية العربية تدق الناقوس

التقارير المتوالية للتنمية الإنسانية في الدول العربية لا تكف عن المطالبة بتقليص "الفجوة في المعرفة" التي تعاني منها هذه الدول عن طريق رؤية إستراتيجية قائمة على حرية الرأي والتعبير والتنظيم وضمانها بالحكم الصالح، ونشر التعليم وتطويره وتوطين العلم وبناء قدرات البحث العلمي، والتحول نحو نمط إنتاج المعرفة وتأسيس نموذج معرفي عربي أصيل.

وحسب هذه التقارير فإن الثقافة العربية في أوجها كانت هي المثال الذي كانت تحتذي به الثقافات الأخرى، قبل أن يضربها التخلف الثقافي في الوقت الذي تبرز فيه ثقافة عالمية جديدة.
وحالة المعرفة بشقيها من نشر للمعرفة وإنتاجها تعتريها في الدول العربية تنشئة قد تكبح الفكر، ويتهمها الكثيرون بالتذبذب بصورة تؤثر سلبا على عملية نمو الاستقلال والثقة بالذات والكفاءة الاجتماعية، والقدرة على التفكير، خاصة لدى الأطفال؛ وهو ما يجعلهم يعتادون منذ صغرهم على كبح التساؤل والاكتشاف والمبادرة.

ورغم ما حققته الدول العربية من توسع كمي في مجال التعليم على مدى النصف الثاني من القرن الماضي، إلا أن وضع التعليم ما زال متواضعا مقارنة بإنجازات دول أخرى، حتى في العالم النامي. والمشكلة الأخطر في التعليم في البلدان العربية هي تردي نوعيته، وهذا يقوض أحد أهم أهدافه الأساسية، وهو تحسين نوعية الحياة وإثراء قدرة المجتمعات.

ورغم انتشار الفضائيات فإن نسبة وسائل الإعلام لعدد السكان هي الدنيا في العالم العربي قياسا بالمستوى العالمي، كما أن أكثر من 70% من قنوات التلفاز العربية -وعددها نحو 1200 قناة- تخضع لإشراف الدولة التي تملك أيضا وكالات الأنباء، ونتيجة لذلك فإن أكثرية نشرات الأخبار والمواد الإعلامية المذاعة هي نشرات رسمية وسلطوية الطابع وهزيلة المضمون، وتكاد تقتصر على الأنباء الرسمية وأنشطة كبار رجال السياسة، وقلما تحمل معلومات أو أخبارا تغذي المعرفة النافعة للناس، أو تهم أغلبيتهم أو تعنى بشئونهم، وهو أمر لا يساعد على توسيع مداركهم ووعيهم أو تكوين وجهة نظر حيال الأحداث الجارية، سواء كانت قضايا وطنية أو إقليمية أو دولية.

تراجع الترجمة والبحث العلمي

ورغم أن الترجمة تعتبر من القنوات الهامة لنشر المعرفة والتواصل مع العالم؛ فإن حركة الترجمة العربية ما زالت ضعيفة، فمتوسط الكتب المترجمة لكل مليون شخص من العرب كان في السنوات الأولى من الثمانينيات يساوي 4.4 كتابا؛ أي أقل من كتاب واحد كل سنة، بينما بلغ 519 كتابا في المجر، و920 كتابا في إسبانيا.

والبحث العلمي في الدول العربية يعاني، هو الآخر، من شح الإنتاج، وضعف في مجالات أساسية، وشبه غياب في حقول متقدمة، مثل المعلوماتية والبيولوجيا الجزئية، ويعاني البحث العلمي أيضا من انخفاض الإنفاق عليه وغياب الدعم المؤسسي وعدم توافر البيئة العلمية المواتية لتنمية العلم وتشجيعه وانخفاض عدد المؤهلين للعمل في مجاله.

أما عملية ترويج نتائج البحث والتطوير فتواجه صعوبات وعقبات أساسية بسبب ضعف الروابط بين مؤسسات البحث والتطوير وقطاعات المجتمع الإنتاجية وقصور ملحوظ في ممارسة النشاطات الابتكارية، وبقي الجزء الأكبر من الإنجازات البحثية والتطويرية والإبداعية التي تتم في مؤسسات البحث والتطوير العربية غير مكتمل من حيث الوصول إلى حيز الاستثمار.

إن هناك 371 باحثا ومهندسا فقط من بين كل مليون مواطن في الدول العربية بالمقارنة مع المعدل العالمي وهو 979 لكل مليون. كما أن 1.6% من السكان العرب لديهم إمكانية استخدام الإنترنت بالمقارنة مع 69% في بريطانيا و79% في الولايات المتحدة. وهناك 18 جهاز كمبيوتر لكل ألف شخص عربي مقابل 78 جهاز كمبيوتر لكل ألف شخص في العالم.

وقد نجم عن البيئة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية الطاردة تنامي ظاهرة هجرة العقول العربية، ويقدر عدد الجامعيين العرب المهاجرين إلى أوروبا وأمريكا عام 1995/1996 بـ75 ألفا، وكان عدد الأطباء العرب المهاجرين بين العامين 1998 و2000 حوالي 15 ألف طبيب.

ولعل أهم أسباب التخلف المعرفي في العالم العربي ترجع إلى وضع الحريات وحقوق الإنسان في الدول العربية مقارنة بدول العالم. فالقمع والتهميش في معظم البلدان العربية أسهما في قتل الرغبة في الإنجاز والسعادة والانتماء، ومن هنا ساد الشعور باللامبالاة والاكتئاب السياسي؛ ومن ثم ابتعاد المواطنين عن المشاركة في إحداث التغيير المنشود. وبسبب غياب التنافس والتداول تخضع المؤسسات العلمية في أحيان كثيرة للإستراتيجيات السياسية ، وتتقدم مقاييس الولاء في الاختيار للإدارة والترقية بدلا من الكفاءة والمعرفة، وأدى التقييد على البحث والإبداع العلمي إلى تكبيل العقول وإخماد جذوة المعرفة وقتل حوافز الإبداع في غالب الدول الإسلامية والعربية.

مستوى جامعاتنا العلمي متواضع

وقد أكدت أبحاث عديد من العلماء على الأثر القوي للتعليم على الإنتاج وعلى التطور الاقتصادي والتقدم التقني، فخلف كل مظاهر التقدم التقني والاقتصادي تكمن جهود العلماء الباحثين في مختبراتهم. فمؤسسات البحث العلمي تلعب دورا مهما في تطوير الإنشاءات، وضمان نجاح التخطيطات الاقتصادية وتصحيحها وتقييمها. كما تؤدي البحوث إلى حدوث اكتشافات علمية تؤثر في طبيعة فهم الإنسان ونظرته إلى العالم وفي كشف مناطق جديدة من المعلومات والاحتمالات التطبيقية التي تتحول إلى وسائل وأدوات تكنولوجية للإنتاج والمواصلات وغيرها.

فالبحث العلمي هو استنباط للمعرفة، وتطوير لمنتج، وتخلف البحث العلمي في القطاع الصناعي أو الاجتماعي أو غيره يحول دون تطوير هذه القطاعات والتغلب على مشاكلها؛ وبالتالي فإنه لا يمكن مع هذا التخلف تطوير تكنولوجيات أو تحسين مستويات هذه القطاعات ولا النهوض بها ولا إنتاج الثروات.

إن الاستقلالية التكنولوجية، وإخضاع هذه المعارف وتطويرها رهين بالبحث العلمي وسياسة واستثمار الموارد البشرية، والجامعات بما تضمه من مخابر البحث، وورش التجريب ومدرجات التدريس تعد من أهم وسائل إعداد الطاقة البشرية وصقلها، وتنمية مهاراتها بالعلم والمعرفة والتدريب.

يلاحظ بعض الباحثين أن جامعاتنا لا تقر سياسات البحث العلمي، ولا تحدد أهدافًا إستراتيجية على المدى القصير ولا على المدى الطويل ولا المتوسط، ولا تضم البرامج السنوية للجامعات برامج بحوث بالمفهوم العالمي إلا نادرا، وغالبا ما تكون مشاريع البحوث المنجزة من تلقاء مبادرة فردية أو مجموعات بحث صغيرة.

فهذه الجامعات لم تكن مجالا للبحث العلمي قط. فقد انهمكت بعد حصول بلداننا على الاستقلال في تكوين الكوادر من أطباء وحقوقيين ومدرسين ورجال إدارة؛ ليحلوا محل الكوادر الاستعمارية، واستمرت هذه الوضعية ردحا من الزمن، وبعد ذلك عند دخول هذه الدول فيما يسمى بالتقويم الهيكلي الاقتصادي الذي أملاه صندوق النقد الدولي، قلت الاعتمادات المالية والنفقات الاستثمارية في التعليم وفي سائر القطاعات. فبدأت ظاهرة بطالة الخريجين التي ما زلنا نعانيها: طوابير من المتعلمين والكفاءات معطلة عن الإنتاج، لا تتاح لها فرصة القيام بدور منتج، مشلولة مهمشة، رغم الحاجة الوطنية الملحة إلى المتعلمين كافة وفي سائر التخصصات.

خلل في أركان المعرفة

وإذا كانت المعرفة منتَج اجتماعي واقتصادي معا، فإن ممانعات المعرفة أو منشطاتها في المجتمع العربي ترتبط بالسياق الاجتماعي الثقافي السائد.

وبالنظر في أركان مجتمع المعرفة، نعرف لماذا يقف المجتمع العربي ممانعا وعائقا أمام تأسيسها في فضائنا العربي. وهذه الأركان هي: حرية الرأي والتعبير، نشر وتعميم التعليم وردم الفجوة المعلوماتية، إنتاج المعرفة وتوظيفها بكفاءة في النسيج المجتمعي، وأخيراً إبداع نموذج معرفي ذي خصوصية ثقافية.

والاختلال في الأركان السابقة في الحالة العربية معروفة ومتفق عليه إلى جانب بعض مظاهر الخلل في الأداء السياسي، وسيادة السلطة الأبوية وقيم المحافظة في التنشئة العربية. وتخلف التعليم العربي وضعف الإنفاق على البحث العلمي، واستيراده عوضا عن إنتاجه يسم الحالة المعرفية العربية، حيث يسود الكم على الكيف في التعليم العربي، وتقف معدلات الأمية المرتفعة حائلا دون الانخراط في مجتمع المعرفة، وخاصة مع تدني نسب الالتحاق بالمراحل الأعلى من التعليم النظامي مقارنة بالمعدلات العالمية.
ويعتبر التعليم أهم أدوات عبور خط التقسيم الرقمي وتخطي الفجوة الرقمية، والتي يمكن تحديد موقعها من أسس أركان إقامة مجتمع المعرفة الأربعة التي هي: اتصال و إعلام، ثقافة مجتمع المعرفة وعلومه وأركانه، رأس مال بشري، ثم مستوى تعليم راق.

وربما كانت سيادة العقلية التلقينية، والقائمة على الحفظ والاجترار والتكرار في مؤسسات التعليم العربي من أهم عوامل إجهاض الدخول إلى مجتمع المعرفة الذي يشجع في المقابل الحوار والإبداع، والتعلم الذاتي، وثقافة السؤال. ويحتاج إنتاج المعرفة إلى وجود ثقافة معرفية متميزة في المجتمع تساندها وتشجعها وتبرز وتحترم قدرات التفكير والإبداع والسؤال والتأمل والبحث.

أهمية الإدارة الأهلية لمؤسسات التعليم

حينما تتاح الفرصة للمجتمع أن يؤسس مؤسسات أهلية يديرها بنفسه، فإنها في الغالب الأعم تكون أعلى كفاءة في الأداء، وأرقى نوعا في النتائج، وخذ في ذلك مثلا المدارس والمستشفيات الأهلية في بعض البلاد العربية، مقارنة بنظائرها الحكومية، فإنها في أغلب الأحوال تفوقها تنظيما وأداء ونتائج، حتى أصبحت المدرسة الحكومية في أكثر البلاد العربية عنوانا للفوضى، وتدني المستوى التعليمي، وضعف الخريجين منها، وأصبحت المدرسة الأهلية عنوانا لأضداد ذلك، وينطبق الأمر ذاته على المستشفيات والمؤسسات الصحّية، فكأنما هذه المؤسّسات إذن نهضت في أداء مهامها لما تحررت من ربقة الدولة، وتكفل بها المجتمع، وكأنما كانت الدولة هي العائق دون نهضتها.

والعقول المفكرة من أبناء الأمة تظل عاطلة أو تكاد عن الابتكار والريادة، ضئيلة الفاعلية في تحريك الواقع والتأثير فيه، وذلك حينما تكون تحت رعاية الدولة، وضمن مؤسساتها، وفي نطاق خططها وتوجيهاتها، فإذا ما تحررت منها، وهاجرت إلى فضاء خارجي، ظهر تفوقها وإبداعها في مجال العلم النظري، وتأثيرها وفعاليتها في مجال التنمية الواقعية، ووصلت في ذلك إلى أعلى درجات العلم والعمل، وذلك هو المفتاح الأساسي من مفاتيح النهضة، وليس أدل على ذلك من أن الجوائز والتقديرات العلمية العالمية، إنما حصلت عليها تلك العقول العربية، التي هاجرت من بلادها، التي تديرها الدولة الحديثة إلى البلاد الغربية، وكأنما إدارة تلك الدولة الحديثة، هي التي كانت تعيقها عن الإبداع، فلمّا تحررت منها أبدعت.