مالك بن دينار....عندما تُفَك الأغلال (1 )
14 جمادى الأول 1428
د. خالد رُوشه

[email protected]
عندما يتوق المرء إلى تذوق طعم الحرية في هذا الزمان فليرحل بروحه ونفسه وفكره إلى حياة الأحرار وسير الأبرار , فثم يستنشق طعم الحرية , إذ العبودية لله وحده لاشريك له , فلا أغلال تقيد , ولا زخارف تجتذب .. ولا شهوات تستعبد !
ومن أراد أن يعرف الفارق بيننا وبينهم حقا , فليقرأ سيرهم , وليتقمص قميص حياتهم , فهناك يستشعر جلال الفقر لله , وجمال الرجاء لما عند الله , وبهاء الإقبال على الله ..

ومن أراد أن يعرف كم نحن بعيدون , وكم نحن محرومون , وكم نحن معاقون عن المناقب والمقامات , فليقارن حياتنا بحياتهم , وليزن قلوبنا بقلوبهم ..فعندئذ ستصيبك كما قد أصابني .. وكأن رعشه قد اعترت يدي بينما أنا أبدأ هذا التعليق الصغير على حياة هذا الرجل الصالح الكبير .. مالك بن دينار .. رحمه الله

إننا اليوم نقرأ عن صالح جليل , قال عنه ابن الجوزي : أسند عن أنس بن مالك وعن جماعة من كبار التابعين كالحسن وابن سيرين والقاسم بن محمد وسالم بن عبيد الله وآخريبن , وكان عالما كريما ومحدثا ثقة .
ولئن كان العلم هو الخشية – كما في قول ابن مسعود وغيره – فلقد بلغ صاحبنا من الخشية مقاما , ومن الخوف مبلغا خرج به عن دنيانا هذه فلم تعد تغريه شهواتها ولا تجتذبه زخارفها , فهو يقول : " لو صلح لي أن آكل الرماد لأكلته, ولو صلح لي أن أعمد إلى حصير فأقطعه قطعتين فأتزر بقطعة وأرتدي قطعة لفعلت " ..

إنه يرنو أن يصير عبدا فقيرا عند ربه سبحانه , حيث الحرية الحقة من كل عبودية إلا عبوديته , يروي ابن كثير عن جعفر بن سليمان قال : قال مالك بن دينار: لقد هممت أن آمر إذا مت أن أغل فأدفع إلى ربي مغلولاً كما يدفع العبد الآبق إلى مولاه.
وهو في ذلك تستوي عنده رؤية الناس من عدمها , فلا يتجمل لأجل الناس فينافقهم , ولا يتقرب من الأغنياء فيطاوعهم , ولا يستذل بين يدي السلاطين فيباركهم , إنما هو في نعيم آخر ..حيث روح وريحان إذ يقول " ما تنعم المتنعمون بمثل ذكر الله " , ويقول : " ما من أعمال البر شيء إلا دونه عقبة, فإن صبر صاحبها أفضت به إلى روح, وإن جزع رجع "
ويروي عنه ابن الجوزي قوله : " منذ عرفت الناس لم أفرح بمدحهم ولم أكره ذمهم, لأن حامدهم مفرط وذامهم مفرط " ..

فكيف بنا ونحن نقرأ في سيرة الرجل إذ أسقط في أيدينا مما نرتع فيه من متاع حيث الحرص قد بلغ منا أبعد مدى والشح قد كبل نفوسنا بقيد من حديد ..فالنفس قد تمردت علينا حتى صارت تأمر فتطاع , والشهوات قد صارت موئلا لكل طموح وإنجاز !! لكم أنا في شوق أن أسأل مالكا ؟ بالله عليك كيف غلبت رغيف اللبن ؟!
فعن عثمان بن إبراهيم قال: سمعت مالك بن دينار يقول لرجل من أصحابه: إني لأشتهي رغيفًا بلبن رائب, قال: فانطلق فجاء به, قال: فجعله على الرغيف وجعل يقلبه وينظر إليه ثم قال: اشتهيتك منذ سنين فغلبتك, حتى كان اليوم وتريد أن تغلبني اليوم؟ إليك عني. وأبى أن يأكله..

ولا تستغرب أيها القارئ من موقفه مع الرغيف واحذر أن تصفه بالتشدد في الزهد , فإن الرجل كان مؤدبا لنفسه مربيا لها , ممسكا بلجامها أحسن إمساك , فرباها وزكاها حتى لقي ربه ..قال ابن كثير : وكان مالك بن دينار يطوف بالبصرة فيمر بالسوق فينظر إلى أشياء يشتهيها فيرجع فيقول لنفسه: أبشري فو الله ما حرمتك ما رأيتِ إلا لكرامتك عليّ.
لقد كان مالك بن دينار يرى أنه يستطيع أن يعيش حياته بأقل القليل , وهو في ذلك يصف لنا أحسن الأوصاف في الاستغناء عن الناس , بل هو يسعى إلى عطاء الناس من كل ما عنده حبا وكرامة ..فعن يوسف الصفار قال: قال مالك بن دينار: من دخل بيتي فأخذ منه شيئًا فهو له حلال, أما أنا فلا أحتاج إلى قفل ولا إلى مفتاح, وكان يأخذ الحصاة من المسجد ويقول: لوددت أن هذه أجزأتني في الدنيا ما عشت, لا أزيد على مصها من الطعام والشراب.

إن امرءا مثل هذا , لقريب من أن تعجبه أعماله! وتكبر في عينيه عباداته .. ولكن أمثال مالك لم يكونوا ليغرهم الشيطان فيوقعهم في العجب بالطاعة ولا في الفرح بالزهادة , وإنما كان استغناؤه في قلبه , فهو يستقل عمله ويستحيي من تقصيره ..فعن جعفر بن سليمان قال: قال لي مالك بن دينار: إذا ذكر الصالحون فأف لي وتف!!
وعن جعفر بن سليمان قال: جاء محمد بن واسع إلى مالك بن دينار فقال: يا أبا يحيى إن كنت من أهل الجنة فطوبى لك, فقال: ينبغي إذا ذكر لنا الجنة أن تخزى!!

إن دعاتنا اليوم في مشارق الأرض ومغاربها لفي أمس الحاجة لإعادة النظر في منهاج حياتهم ودفع رونق المتاع عنهم , والتحرر من ربقة المال , وقيد الرغبات , إنهم جميعا بحاجة أن يستشعروا معنى الحرية الحقيقية حتى يستطيعوا إشعار الناس بها ..
ولم يكن مالك بن دينار وتلك حاله , بحاجة أن يحمل هما لموت أو عقاب .. ولكنه – كباقي الصالحين العالمين – لم يغتر بحالة يمر بها ولا بأمن للدنيا مهما كان حالها معه , فهو في خوف دائم وبكاء مستمر , فعن عبد العزيز بن سليمان قال: انطلقت أنا وعبد الواحد بن زيد إلى مالك بن دينار, فوجدناه قد قام من مجلسه فدخل منزله, وأغلق عليه باب الحجرة, فجلسنا ننتظره ليخرج أو لنسمع له حركة, فجعل يترنم بشيء لم نفهمه, ثم بكى حتى جعلنا نأوي له من شدة بكائه.

وقال الحارث بن سعيد: كنا عند مالك بن دينار وعندنا قارئ يقرأ: {إِذَا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا} [الزلزلة:1], فجعل مالك ينتفض وأهل المجلس يبكون ويئنون حتى انتهى إلى {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ. وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} قال: فجعل مالك - والله - يبكي ويشهق حتى غشي عليه, فحمله القوم إلى بيته.

أما حمله الذي قد رتب في حياته أنه سيسأل عنه فهو حمل خفيف تمام الخفة , قال عبد الله بن المبارك: وقع حريق بالبصرة, فأخذ مالك بن دينار بطرف كسائه وخرج وقال: هلك أصحاب الأثقال (يعني أنه ليس له متاع يخاف عليه ) , وكان يقول: إن الله تعالى إذا أحب عبدًا انتقصه من دنياه وكف عنه ضيعته, ويقول: لا تبرح من بين يدي, فهو متفرغ لخدمة ربه سبحانه , وإذا أبغض عبدًا دفع في نحره شيئًا من الدنيا ويقول: اعزب من بين يدي فلا أراك بين يديّ, فتراه معلق القلب بأرض كذا وبتجارة كذا , قال المغيرة بن حبيب زوج ابنة مالك بن دينار: كان مالك يصلي العشاء الآخرة ويدخل بيته فيقرب رغيفه فيأكل, ثم يقوم إلى الصلاة ولقد رأيته يومًا فعل ذلك, فاستفتح ثم أخذ بلحيته فجعل يقول: يا رب إذا جمعت الأولين والآخرن فحرِّم شيبة مالك بن دينار على النار, قال المغيرة: فوالله ما زال كذلك حتى غلبتني عيني, ثم انتبهت فإذا هو قائم على تلك الحال... حتى طلع الفجر...
ودخل اللصوص إلى بيت مالك بن دينار فلم يجدوا في البيت شيئًا فأرادوا الخروج من داره فصاح فيهم مالك: ما عليكم لو صليتم ركعتين... واستغفرتم الله!!!
يتبع