مالك بن دينار..عندما تُفَك الأغلال (2 )
24 جمادى الأول 1428
د. خالد رُوشه

[email protected]
سبق في الجزء الأول من المقال الحديث حول تلك الشخصية الفذة شخصية مالك بن دينار رحمه الله وكيف ترك الدنيا بزينتها وأقبل على الله سبحانه , وفي هذا الجزء نحاول أن ننظر إلى جانب عملي من حياته الزاهده , ليقول لنا مالك بن دينار أن الزهد في الدنيا لا يعني السلبية عن الإصلاح ولكنه يعني العلم والعمل والإنجاز والنصح والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع التواضع و حفظ القلب من تعلقه بها ..

وأحب في بداية هذا الجزء الثاني من هذا المقال أن أؤكد على بعض المعاني الهامة فيما يخص الزهد سواء في ماهيته أو تطبيقه حتى إذا تابعنا مواقف واقوال الرجل الصالح وجدنا كيف التطابق العجيب بين المنهج والتطبيق ؟؟

أولا : إن الزهد هو انصراف الرغبة عن الشىء إلى ماهو خير منه ويلزم ذلك أن يكون الزاهد عالما بأن ما تركه لا يقارن بما يرجوه, فإن الزاهد في الدنيا هو زاهد فيما هو جاذب فيها مقبل على ما هو جاذب إلى الآخرة " تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة "

ثانيا : أن الزهد في الدنيا لا يكون بتحريم الحلال ولا إضاعة المال ولا الانطواء عن الناس وإنما الزهد أن تكون بما في يد الله أوثق منك بما في يدك .

ثالثا : الزهد عمل من أعمال القلوب قبل أن يكون تطبيقا للجوارح فمن كان قلبه زاهدا كان هو الزاهد ومن كان قلبه منشغلا بالمتاع استحال أن يكون زاهدا حتى لو افترش التراب ولبس مرقع الثياب .

رابعا : إنما تكون الثقة بما عند الله أساس الزهد لأنها تولد اليقين الذي يهون معه فقد المال والمتاع , فقد قيل له ما مالك ؟ قال مالان : لا أخشى معهما الفقر , الثقة بالله , واليأس مما في أيدي الناس , فقيل له أما تخشى الفقر فقال : كيف أخاف الفقر وسيدي ومولاي له ما في السموات وما في الأرض .

خامسا : حقيقة الزهد القناعة بالموجود وألا تحسد أحدا على رزق الله له ولا تلم أحدا على ما لم يؤتك الله " إن زرق الله لا يسوقه حرص حريص ولا يرده كراهية كاره فإن الله جعل الروح والفرح وفي اليقين والرضا وجعل الهم والحزن في السخط والشك " .

سادسا : لا يكتمل الزهد إلا مع التواضع فأيما رجل رأى نفسه زاهدا فزهده ناقص فإن " الزاهد الذي إذا رأى أحدا قال : هو أزهد مني "

ولننظر إلى تلك المعاني السابقة في حياة مالك بن دينار رحمه الله وآثاره
فأنت تراه يتحسب لذنبه وتقصيره في حق ربه ففي حين ينسى الناس جرمهم ويسألون سقياهم , إذا به يخشى من أن يعاقب بذنبه , فعن جعفر بن سليمان قال: قال الناس لمالك بن دينار: ألا تستقي لنا؟ فقال: أنتم تستبطئون المطر لكني أستبطئ الحجارة!

وأنت تراه في موقف آخر شديد التبتل شديد الإنابة متخفيا من الناس لا يرتجي منهم مديحا ولا ينتظرمنهم أجرا وإذا به في غمرة ذلك يطأطىء الرأس لربه خائفا مرتعدا مناجيا ربه .. فقد قال جعفر بن سليمان: رأيت مالك بن دينار يتقنع بعباء, ثم يقول: إلهَ مالك قد علمت ساكن الجنة من ساكن النار, فأي الدارين دار مالك, وأي الرجلين مالك؟ ثم يبكي.

وهو في ذلك يجد أن عليه مسئولية تجاه الناس في أن يذكرهم بمسئوليتهم ويوخوفهم العذاب , فقد قال أيضًا جعفر: سمعت مالكًا يقول: لو استطعت أن لا أنام لم أنم مخافة أن ينزل العذاب وأنا نائم, ولو وجدت أعوانًا لفرقتهم ينادون في منار الدنيا كلها: أيها الناس, النار.. النار.

ونقل ابن الجوزي عنه أنه كان يقول: يا حملة القرآن ماذا زرع الله في قلوبكم؟ أين أصحاب السورة والسورتين؟ ماذا عملتم فيهما؟؟ يا هؤلاء جهالكم كثير..., يا هؤلاء لا تجعلوا بطونكم جُرُبًا للشيطان يوعي فيها إبليس ما شاء...

أما ماأورثته ثقته بالله من قوة في القلب وشجاعة في المواقف فهو كثير معروف عنه , فقد مر والي البصرة بمالك بن دينار وحوله الجند والصولجان؛ فصاح به مالك: أقلل من مشيتك هذه واتق الله, فهمَّ خدمُه وجنده به, فقال لهم الوالي: دعوه: ما أراه يعرفني, فقال مالك: ومَن أعرف بك مني, أما أولك فنطفة مذرة (فاسدة), وأما آخرك فجيفة قذرة, وأنت بين ذلك تحمل العذرة!!! فنكس الوالي رأسه... فأي علم ذلك الذي أورث العمل وأي زهد ذلك الذي أورث الشجاعة !!

ووقف يومًا ينصح الناس فقال: يا أيها الناس: إن الأبرار لتغلي قلوبهم بأعمال البر, وإن الفجار لتغلي قلوبهم بأعمال الفجور, والله يرى همومكم فانظروا ما همومكم رحمكم الله ( يريد الإشارة إلى حديث النبي صلى الله عليه وسلم عند الترمذي وغيره : " من كانت الآخرة همه جعل الله غناه في قلبه وجمع له شمله وأتته الدنيا وهي راغمة ومن كانت الدنيا همه جعل الله فقره بين عينيه وفرق عليه شمله ولم يأته من الدنيا إلا ما قدر له " )

عظمة الموت:
وبينما نحن نطوي صفحة من حياة قيّمة عاشها ذلك الرجل تكسونا مهابة وجلال في تلك اللحظات التي يودع فيها الحياة مقبلا غير مدبر سعيدا بلقاء ربه هنيئا بتفضيل الآخرة على العاجلة , غير نادم على أيام فقر ولا مشتاق إلى شهوة متاع .. إنها الحرية الأبدية عندما تقبل على ربك عبدا ذليلا فتلقاه فرحا مسرورا فهناك تجد الرحمة والقبول ... حيث تفك القيود وترفرف الروح إلى فضاء لانهائي تتمتع فيه بالسرور والحبور والرضا والطمأنينة ....

قال ابن الجوزي: لما نزل الموت بمالك بن دينار دخل عليه أصحابه وتلاميذه فرفع رأسه إلى السماء, فقال: اللهم إنك تعلم أني لم أكن أحب البقاء في الدنيا لبطن ولا لفرج, يا أيها الناس... لمثل هذا اليوم كان دُؤوب أبي يحيى, والله لولا أني أكره أن أصنع شيئًا لم يصنعه أحد كان قبلي لأوصيت أهلي إذا انا مت أن يقيدوني وأن يجمعوا يدي إلى عنقي فينطلقوا بي على تلك الحال حتى أدفن كما يصنع بالعبد الآبق.. - رحمه الله -.
________________________________________

انظر ترجمته في: صفة الصفوة 3/184وما بعدها، وتهذيب سير أعلام النبلاء 1/497 ومابعدها.