نحو منهجية تربوية قلبية مؤثرة (2)
2 محرم 1429
د. خالد رُوشه

[email protected]
( سبق في الجزء الأول أن تحدثنا حول أهمية وجود منهجية تربوية للتربية على العبودية الحقة وحب العبادة والثبات عليها وذكرنا أن مجرد والوعظ والإرشاد لا يقوم بكل ما نريد من هذه المنهجية وههنا نكمل جزءا آخر من الحديث )
............
إننا بحاجة إلى جيل مؤمن, محب للإيمان, محب للطاعة والعبادة, شاعر بحاجته لعبادة ربه, وضرورته لعبودية قلبه لربه, حتى إذا خلا بمحارم الله لم ينتهكها, بل أطاع ربه وحيدًا وبين الناس.
وأحسب أنه من الفروق الأساسية بين الصالح والدعي؛ حب الطاعة, والشعور بمعنى العبودية.
وللأسف الشديد... نحن أمام جيل قد أهمل أكثره تزكية نفسه, وجهل تطبيق معنى العبودية الحقة, ولم يشعر بمراقبة ربه, فهو جيل يعاني كل المعاناة.

فترى أحدهم يعلم خطر الذنب وأثره ومدى سخط الله عليه إذا هو اقترفه, وحرمة فعله للذنب, ثم تراه أمام الذنب ضعيفًا لا يقوى, ولا يلبث أن يقع فيه, ثم هو بعد قليل تراه قائمًا بين الصفوف يعبد الله...! ثم ربما هو - نفسه - بعد العبادة يعرض عليه الذنب ذاته فيقع فيه!

فخرج علينا جيل هش, ضعيف أمام الشهوات, منكسر أمام المادة, بعيد في غالب أحيانه عن الله سبحانه.
وإنها والله لطامة كبيرة؛ أن يكون بين يدي الحركة الإسلامية هذا الكم الكبير من الشباب المسلم الراغب فيما عند الله, ثم لا تستطيع هذه الحركة توجيهه إلى ربه توجيهًا سليمًا.

ولا عجب إذن أن يعاني الشباب المسلم مما يعاني من ضعف أمام الشهوات, وسيطرة الغفلة عليه, وقوة جذب الدنيا له, وطغيان المادة عليه, إذ إنه لم يهتم بسلامة قلبه ولم يُزَكِّ نفسه, فكيف يتغلب على كل ذلك؟
ومن الغريب أن تسمع من التأويلات والتفسيرات لضعف الشباب المسلم ما يتعجب له, فمن المربين من يدَّعي أن سبب الضعف للشباب هو عدم قدرتهم المالية مما جعلهم يشتغلون بالوظائف طوال اليوم, ولم يعد لهم وقت للعبادة, وآخر يرى أن سبب ضعف الشباب المسلم هو تكاثر الشهوات من حوله ... ومثل ذلك.

والحق, أن ما ذكروه - وإن كان له بعض الأثر لمن يترك نفسه نهبًا له – هو في ذيل الأسباب, بل إنا قد لا نعد ما ذكروه سببًا مباشرًا لضعف الشباب المسلم.
إن أول الأسباب هو: مرض قلبه, وفشله في علاجه, وضياع هوية قلبه, وفقدانه القلب السليم الذين سنتحدث عنه إن شاء الله.
إن صاحب القلب السليم ليظل قلبه سليمًا, مهما كان فقيرًا معدومًا, يعمل الليل والنهار, لأن الفقر لا يأسر إلا مريض القلب
وصاحب القلب السليم, لا يأبه للشهوات وإن عصفت, ولا بالعري وإن كثر لأن الشهوات لا تأسر إلا مريض القلب, والعرى لا يؤثر إلا في مريض القلب بالشهوات.

فالبعد عن إصلاح القلوب خلّف جيلاً ضعيفًا, مأسورًا, مكسورًا, وخلف مربين غير أكفاء، لا يستطيعون القيام بعلاج أمراض القلوب, إذ إن فاقد الشيء لا يعطيه, وخلّف قادة غير ربانيين, ينأون بأنفسهم عن مواقع البذل والعطاء والتضحية خوفًا من الناس, أو رغبة في الدنيا وزينتها, فلم يجهر منهم بالحق أحد إلا من رحم الله, وقليل ما هم!!

** المربي :
إن كلامنا حول منهج للتربية القلبية والنفسية, سيذهب هباءً وضياعًا, إن فقدنا من يقوم بهذه العملية المنهجية, وهم المربون , ولسنا نقصر معنى المربي هنا على ما يتبادر للذهن من كونه شخص يتولى أمر عدد من الشباب, فيعلمهم العلم والخلق, ولكنني أعنى هنا كل قدوة في مكانه, فإن القيام بعملية التربية الروحية الإيمانية ليس قيامًا بعملية تدريسية تعليمية جافة, ينتهي درسها بانتهاء وقت شرحها للمتعلمين, ولكنها سكينة وطمأنينة, وحب وعلم وخشوع, ورجاء وإنابة تتدفق على قلب المتربي, فيضيء قلبه وتزكو نفسه بنور العلم والهدى.

وهي عملية يقتدي فيها المتعلم بالقدوة في أمور أخرى كثيرة غير تلك الدراسة النظرية التي يتعلمها منه, فيقتدي به في خوفه من ربه, في حبه لعبادته, في إخلاصه لكلمة التوحيد, في حبه للعلم والإقبال عليه, في تجريده للعمل لله, في توبته المستمرة, في إنابته الدائمة, في كثرة ذكره لله وتعلقه بالقرآن, في بذله لدعوته وعطائه لها وفي زهده للدنيا وتقلله منها, في استعلائه على الملذات والشهوات, في مراقبته لله تعالى, في تضحياته لله وسعيه لبذل نفسه وماله لله عز وجل.
مشكلة: أين حلها؟

أجدني هنا أمام عثرة يصعب تجاوزها , إذ إن القائم بعملية التربية الإيمانية والقلبية - وهو المربي - ليس كأي مربٍ يمكنه أن يؤدي دوره, فيأخذ المتعلمون منه الحسن ويتركون القبيح , ولكن المربي في هذا المجال لابد أن يتصف هو ذاته بالصلاحية القلبية والنفسية, التي على أساسها سيستطيع أن يؤثر في غيره.

فيكون سليم القلب حتى يستطيع أن يوصل للمتعلمين معنى سلامة القلب, و يكون صحيحًا من أمراض القلوب حتى يستطيع أن يعالجها عند غيره من المرضى, كذلك ينبغي أن تكون لديه طاقة العطاء التي بها وعلى أساسها يرى الخير في قلب غيره ويعينه على تزكية نفسه, تلك الطاقة المفقودة التي تكاد أن تكون هي السر في فشل المربين الآن في تربيتهم للشباب المسلم.
إن الشاب المسلم المتربي ليشعر بخواء مربيه من الطاقة الإيمانية والدافعية القلبية والروحية, التي يمكنه أن يستقي منها الخير.
يشعر أن مربيه يخرج الكلام من لسانه, لا من قلبه, و يعلمه العلم بكلمات لا روح لها ولا حلاوة , ثم إذا بالمتعلم يفتقد أستاذه في مواطن الخير؛ فيفتقده في صلاة الفجر أحيانًا , ويفتقده في الابتلاءات والاختبارات أحيانًا ؛ ويفتقده في مواطن التضحية والفداء, ويفتقده في مواطن البذل والعطاء , فكيف يقتدي الشباب بقدوات هذا حالهم, ومن سيربي الأجيال إذا دب النقص إلى القادة والمعلمين؟!

** تربية الشباب بين الدنيا والآخرة :
لقد أمعن بعض المربين في معنى يحتاج إلى تقويم كبير , وهو معنى مؤداه أنه لابد من الانخلاع من الدنيا بالكلية وتركها إذا أراد المرء أن يحسن العبادة , وبالتالي أصبح الشاب بين فكرتين , إما أن يهتم بمصالحه وبنجاحاته المتعلقة بالدنيا فهو عندئذ مخالف لما يعلمه له مربوه , وإما أن يترك دنياه وما يتعلق بها من أعمال حتى يتفرغ للعبادة , وصار المتعلمون على حالين بين رؤية البعض أن الدنيا لابد منها ليتمكن المرء من العيش الكريم السوي وتتمكن أمته من النهوض والتقدم والغلبة والتمكين وبين رؤية البعض الآخر أن الدنيا لاقيمة لها أبدا بحال وأنها يجب أن تهجر هجرا تاما .

وأدت هذه التفرقة إلى عزلة بعض الناس وتنسكهم وتبتلهم بعيدا عن مجتمعاتهم وتكالب آخرين على الحياة وجعلوها همهم الأوحد ينتهبون ما فيها من متعة فتملكهم شهوتهم ولا يملكون نفسهم منها وتقتلهم في نهاية الأمر أو تشقيهم بالتعلق الدائم الذي يهنئ ولا يستقر

والحق أنه ليس مراد التوجيهات الشرعية نحو ترك الدنيا هو إهمالها بالكلية واجتثاثها , بل تصريفها في أغراض الحق واستعمالها في نفع أمة الإسلام وقيم الإيمان ووراثتها لإقامة العدل والصلاح " ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون " .

ومن هذا الفهم المغلوط لبعض التوجيهات خرج من الفكر الصوفي الدعوة إلى ترك الدنيا بالكلية والقعود عن معالي الأمور , فقد قيل لبعض المتصوفة : كيف ترى الدنيا ؟ قال : ما الدنيا ؟ لا أعرف لها وجودا ، و سمع بعضهم من يقرأ قوله تعالى " منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة " فصاح وأين من يريد الله ؟ ! قال الشيخ رشيد رضا – معلقا على هذه المقولة - : " وهو قول حسن في الظاهر قبيح في الباطن . فالآية خطاب لخيار الصحابة وارادة الدنيا والآخرة بالحق هي إرادة لمرضاة الله " مجلة المنار

فالفهم الصحيح لهذه الآيات أن نقول إن المراد هو استخدام الدنيا في طاعة الله عز وجل , وعدم إرادتها لمعصيته أو الغفلة عنه .
وإذا كانت هذه الدنيا هي وسيلة أو قنطرة إلى اليوم الآخر . أليس من الواجب إصلاح هذه القنطرة بالإيمان أيضا لكي نتمكن من الوصول للغاية الكبرى وهي الفوز بالجنة والنجاة من النار ؟!
بل ورد الأمر منه صلى الله عليه وسلم بالإصلاح وإن قامت الساعة : فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة ( وهي النخلة الصغيرة أو الودية ) فإن استطاع أن لا تقوم حتى يغرسها فليغرسها " رواه أحمد .

وأيضا روى عن الحارث بن لقيط قال : "كان الرجل منا تنتج فرسه فينحرها فيقول أنا أعيش حتى أركب هذه ؟ فجاءنا كتاب عمر : أن اصلحوا ما رزقكم الله فإن في الأمر تنفسا " رواه البخاري في الأدب المفرد وصححه الألباني
وأيضا روى البخاري في الأدب المفرد عن عبد الله بن سلام قال " إن سمعت بالدجال قد خرج وأنت على ودية تغرسها فلا تعجل أن تصلحه فإن للناس بعد ذلك عيشا " صححه الألباني

** التربية على حب الورع
إن التربية على العبودية يلزمها بقدر كبير أن يتدرب القلب على الأنس بالله سبحانه , وخلوه من إرادة العلو في الدنيا ولا الفرح بها .
وهذا معنى غير ما سبق وبيناه إذ إن الاهتمام بالإنجاز في الدنيا لتعميرها بغية رفع شأن الأمة ونصرتها شىء وأن يتلوث القلب بحبها مع تقصيره في حق ربه شىء آخر , وإنما أردت هنا أن أبين أن القلب الذي تعود كسر القيد عن رغبات النفس والهوى من الغنى لأجل المال والعلو لأجل الذكر وغيره هو القلب الذي يسهل تربيته وتقويمه .
أما القلوب التي قد ربيت على حب المتاع والشهوات فإنما هي قلوب مستعصية على التقويم ..

إن المربين بحاجة أن يتقنوا فن التخلص من التعلق القلبي من الرغبات والهوى الشخصي والمصلحة الذاتية وهي أمر دفين في داخل النفس للأسف أني أقول أنه يظهر ويبدو من خلال تعاملا المربي مع تلاميذه ومتعلميه مهما حاول المربي إخفاءه إلا أن يحاول علاجه .
من هنا صار تعليم الورع شىء مستحب لأولئك الذين قد يصيرا قادة وقدوات , فحيث علمناهم ههنا معنى أن تظل نفوسهم عفيفة كريمة عن الزخارف والزينات سيخرجون متعالين عن دنو المقامات , ولن تأسرهم الأموال ولا المراكز والوظائف .

يقول الامام بن القيم : قال لي يوما شيخ الاسلام ابن تيمية في شيء من المباح : هذا ينافي المراتب العلية ، وإن لم يكن تركه شرطا في النجاة . ثم يقول ابن القيم ( فالعارف يترك كثيرا من المباح إبقاء على صيانته ، ولا سيما إذا كان ذلك المباح برزخا بين الحلال والحرام) مدارك السالكين .

فهي إذن الصيانة التي نريدها لشبابنا يوم يصيرون في مقدمة الركب , فلنحذر ونحن في صعود الجادة أن تستهوينا بعض مناظر الأرض الجذابة ، فنقف لنلتفت للوراء لإشباع رغبة داخلية فنتأخر عن الصعود ، ذلك إن لم نهو إلي الأرض بعد أن صعدنا منها .
يذكر المؤرخون أن يحيى بن يحيى الذي لقبه مالك بعاقل الأندلس كان يوما عند مالك في جملة اصحابه إذ قال قائل : قد حضر الفيل ، فخرج أصحاب مالك لينظروا إليه وبقى يحيى في مكانه ولم يتحرك , فقال له مالك : لم تخرج فترى الفيل ، لأنه لا يكون بالأندلس ، فقال له يحى : إنما جئت من بلدي لأنظر إليك وأتعلم من هديك و علمك ولم أجئ لأنظر إلى الفيل فأعجب به مالك وسماه ( عاقل أهل الأندلس ) طبقات الفقهاء , لاشك إنه من المباح مشاهدة ذلك .. ولكن وقت المربي أضيق من أن يشغل شيئا منه في مباح لا يجني من ورائه شيئا لقضيته التي تشغله ليل نهار .

وإنه من المباح شراء السيارات الفارهة والسكنى في القصور ، ولكن .. لا يدري ذلك المربي القدوة أن وراءه أتباعا يتساءلون عن مدى إقباله على المتاع الذي لطالما نصحهم بالتقلل منه ؟!
أشياء كثيرة نقترفها أمام من نربيهم ، ثم نشتكي من تغير أحوالهم , وننسى أننا من المتسببين في هذا التغير السلبي بسبب سهو عن محاسبة دائمة للنفس .
يقول ابن الحاج : " الغالب علي النفوس الاقتداء فى شهواتها و ملذاتها و عاداتها أكثر مما تقتدي به فى التعبد الذى ليس لها فيه حظ 0 فإذا رأت ذلك من عالم - و إن أيقنت أنه محرم أو مكروه أو بدعة - ، تقول لعل لهذا العالم علم بجواز ذلك لم نطلع عليه أو رخص فيه العلماء , فإذا رأت من هو أفضل منها فى العلم و الخير يرتكب شيئا من ذلك ، فأقل ما فيه من القبح (الاستصغار و التهاون) بمعاصي الله تعالى " المدخل لابن الحاج
ويقول ابن دقيق العيد " و هذا متأكد فى حق العلماء و من يقتدى به فلا يجوز أن يفعلوا فعلا يوجب سؤ الظن بهم و إن كان لهم فيه مخلص لأن ذلك سبب إلى ابطال الانتفاع بعلمهم ، و من ثم قال بعض العلماء : ينبغى للحاكم أن يبين للمحكوم عليه وجه الحكم إذا كان خافيا نفيا للتهمة " فتح البارى

** مسئولية :
إن مسؤلية القائد المربي كبيرة إذا أراد تربية قلوب تلاميذه ومتربيه على العبودية الحقة .. فلا ينبغي له أن يتوارى في المواقف الصعبة , فلقد كان صلى الله عليه وسلم أشجع الناس سباقا في شدائد الأمور فعن أنس بن مالك – رضي الله عنه قال : كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم أحسن الناس وكان أجود الناس وكان أشجع الناس ، ولقد فزع أهل المدينة ذات ليلة فانطلق ناس قبل الصوت ، فتلقاهم رسول الله – صلى الله عليه وسلم – راجعا وقد سبقهم إلي الصوت وهو على فرس لأبي طلحة عرى في عنقه السيف وهو يقول ( لم تراعوا لم تراعوا )

وموقف آخر يوضح لنا الصورة : فهذا هو يوسف بن يحي البويطي ، تلميذ الشافعي وخليفته أمر أصحاب فتنة خلق القرآن أن يحمل إلي بغداد في أربعين رطل حديد – يقول الربيع صاحب الشافعي – ولقد رأيته على بغل وفي عنقه غل وفي رجليه قيد وبين الغل والقيد سلسلة حديد وهو يقول – إنما خلق الله الخلق بكن فإذا كانت مخلوقة فكأن مخلوقا خلق بمخلوق ، ولئن أدخلت عليه لأصدقنه – ولأموتن في حديدي هذا حتى يأتي قوم يعلمون أنه قد مات في هذا الشأن قوم في حديدهم ) طبقات الشافعية

وجاء في ترجمة الخطيب البغدادي ، أنه ( دخل عليه بعض العلوية وفي كمه دنانير فقال للخطيب فلان يسلم عليك ويقول لك اصرف هذا في بعض مهماتك ، فقال الخطيب : لا حاجة لي فيه ، وقطب وجهه ، فقال العلوي : كأنك تستقله ونفض كمه على سجادة الخطيب وطرح الدنانير عليها فقال : هذه ثلثمائة دينار ، فقام الخطيب محمرا وجهه وأخذ السجادة وصب الدنانير على الأرض وخرج من المسجد ) طبقات الشافعية 3/14 .
يتبع